مقاصد الشريعة
إعداد الدكتور:عايض الشهراني
![]() |
تقسيم الشاطبي للمقاصد
قسّم الشاطبي المقاصد إلى قسمين
رئيسين:
قصد الشارع: وقد قسمه إلى أقسام كما
سيأتي إن شاء الله.
قصد المكلف : وخلاصته: أن قصد المكلف في العمل يجب أن يكون موافقاً
لقصد الشارع وإلا كان باطلاً.وهذا القسم لم يقسمه إلى أقسام, وإنما بحثه في
مسائل:والكلام في المنهج سيكون مركزاً على القسم الأول, فإلى تفاصيله.
أقسام قصد الشارع عند الشاطبي
أربعة وهي :
1/قصد الشارع في وضع الشريعة ابتداءً لمراعاة مصالح العباد
في الدارين.
2/قصد الشارع في وضع
الشريعة للإفهام.
3/قصد الشارع في وضع الشريعة للتكليف بمقتضاها.
4/قصد الشارع في وضع الشريعة لدخول المكلف تحتها (أي لامتثالها).
الترابط التسلسلي بين هذه
الأقسام الأربعة:
قد يتوهم البعض أنه لا
ترابط بين هذه الأقسام الأربعة التي ذكرها الشاطبي عند كلامه عن قصد الشارع, والحق
أن بينها ترابط واضح للمتأمل.فإن النوع الأول:
وهو قصد الشارع في وضع الشريعة ابتداءً, وهو أنه يتمثل في تحقيق مصالح العباد في
الدارين.ولكي يتمكن العباد من القيام بهذه التكاليف الشرعية قصد الشارع أن تكون
مفهومه لهم, وإلى جانب ذلك فإن الشارع قصد أن يكون المكلفون قادرين على تطبيق هذا
التكاليف.وعلى ذلك: فإن هذا التكاليف الشرعية قد وضعت وفق مصالح العباد وهي قد
وضعت وفق مفهومهم ووفق قدرتهم واستطاعتهم, فنتج عن ذلك قصد الشارع إلى أن يدخلوا
تحت هذه التكاليف عملياً, عبودية له سبحانه وامتثالاً لأمره.
شرح هذه الأقسام الأربعة :
القسم الأول : قصد الشارع في وضع
الشريعة ابتداءً، ومعنى ابتداءً: أي بالقصد الذي يعتبر في المرتبة الأولى.وقصد الشارع
في وضع الشريعة بالقصد الأول هو أنها وضعت لمصالح العباد في العاجل والآجل
معاً.وهذه القضية مسلَّمة والأدلة عليها أكثر من أن تحصر.وقد استدل لها الشاطبي
بالاستقراء, فقال: "والمعتمد إنما هو أنا استقرينا من الشريعة أنها وضعت
لمصالح العباد استقراءً لا ينازع فيه الرازي ولا غيره, فإن الله تعالى يقول في
بعثة الرسل, وهو الأصل قال الله( رُسُلًا
مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ)
قال تعالى(وَمَآ أَرْسَلْنَـكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَـلَمِينَ) وقال في أصل الخلقة
(وَهُوَ الَّذِي خَلَق
السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ
عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء لِيَبْلُوَكُمْ
أَيُّكُمْ أَحْسَنُ
عَمَلاً) (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا
لِيَعْبُدُونِ )( الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ
أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا)
وأما التعاليل لتفاصيل
الأحكام في الكتاب والسنة فأكثر من أن تحصى, كقوله بعد آية
الوضوء: ﴿ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ
عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ
عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾
وقال في الصيام: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمْ
الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾
وفي الصلاة: ﴿إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنْ
الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾ وقال في القبلة: ﴿فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ
عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ﴾ وفي الجهاد: ﴿ أُذِنَ
لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ﴾
وفي القصاص: ﴿ وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ
حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ وفي التقرير
على التوحيد: ﴿أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا
بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا
غَافِلِينَ﴾والمقصود التنبيه.وإذا دل الاستقراء على هذا, وكان في مثل هذه
القضية مفيداً للعلم, فنحن نقطع بأن الأمر مستمر في جميع تفاصيل الشريعة.ومن هذه
الجملة ثبت القياس والاجتهاد, فلنجري على مقتضاه"
مراتب
المصالح : وهذه المصالح المذكورة
في هذا القسم على مراتب ثلاث: 1/ضرورية 2/حاجية 3/تحسينية.
يقول الشاطبي:
"تكاليف الشريعة ترجع إلى حفظ مقاصدها في الخلق, وهذه المقاصد لا تعدو ثلاثة
أقسام, أحدها: أن تكون ضرورية, والثاني: أن تكون حاجية, والثالث: أن تكون تحسينية.
القسم الأول
: المقاصد الضرورية:
وهي التي تقوم عليها حياة الناس, ويتوقف عليها
وجودهم في الدنيا, بحيث لو فُقدت لعمّت فيهم الفوضى, وتعرض وجودهم للخطر والدمار. أو هي كما قال محمد الطاهر بن عاشور: "هي التي تكون الأمة بمجموعها وآحادها في ضرورة إلى تحصيلها بحيث لا يستقيم
النظام باختلالها, بحيث إذا انحرمت تؤول حالة الأمة إلى فسادٍ وثلاش".وقد
حصرها العلماء في حفظ خمسة أشياء هي: الدين والنفس
والعقل والنسل والمال. يقول الإمام
الغزالي – رحمه الله –: "ومقصود الشرع من الخلق خمسة: وهو أن يحفظ عليهم
دينهم ونفسهم وعقلهم ونسلهم ومالهم, فكل ما يتضمن حفظ هذه الأصول الخمسة فهو
مصلحة, وكل ما يفوّت هذه الأصول فهو مفسدة, ودفعها مصلحة".
ولرعاية
هذه المقاصد وضع الشارع طريقين أساسيين.
أولاً : وضع الأحكام الشرعية
التي تؤمّن وجود هذه المصالح, وتقيم أركانها, وتوفّر تحقيق المنافع منها, وذلك في
حالة وجودها. ثانياً : وضع الأحكام الشرعية التي تحفظ هذه
المصالح, وتصونها من الضياع أو الإخلال بها, وذلك في حالة العدم, لدفع المفاسد عن
الناس.
1/فحفظ
الدين : يكون بأمرين.
أ/مراعاة حفظه من جانب الوجود, بإقامة أركانه وتثبيت
قواعده, فشرعت لذلك أصول العبادات, كالإيمان والنطق بالشهادتين والصلاة والزكاة
والصوم والحج.
ب/مراعاة حفظه من جانب العدم بما يدرأ عنه الاختلال
الواقع أو المتوقع, ولذا شرع الجهاد لمحاربة المعتدين, وحماية المستضعفين, ورفع
الظلم عنهم, وشرعت العقوبات غير المقدرة لإيقاف فساد المبتدعة في الدين.
2/حفظ
النفس : ويكون بأمرين :
أ/حفظها من جانب الوجود, بتناول الطعام والشراب
واتخاذ الملبس والمسكن, مما يتوقف عليه بقاء الحياة وصوْنُ الأبدان.. ب/حفظها من جانب العدم, بإقامة العقوبات على من سوّلت له نفسه المساس بها,
ولذا شرع القصاص لقوله تعالى}وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ
أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ{
3/حفظ
العقل: ويكون بأمرين:
أ/حفظه من جانب الوجود, بتوجيهه إلى النظر
والتفكير والاستنتاج, لقوله تعالى: ﴿ أَفَلا
يَنْظُرُونَ﴾ ﴿ أَفَلا يَعْقِلُون﴾ ﴿ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾. ب/حفظه من جانب العدم,
بتحريم المسكرات وإقامة العقوبة عليها, ولذا شرع حد الشرب.
4/حفظ
النسل : ويكون بأمرين :
أ/حفظه من جانب الوجود, بإباحة ما فطرت عليه
النفس البشرية من الميل إلى الغريزة
الجنسية, فشرع النكاح, وأحكام الحضانة, والنفقات, وما إلى ذلك...
. ب/حفظه
من جانب العدم, بمحاربة وعقوبة من يساهم في اختلاطه وإضعافه
وانحلاله, ولذا شرع حد الزنا والقذف وما إلى ذلك.
5/حفظ
المال: ويكون بأمرين:
أ/حفظه من
جانب الوجود, بتنميته تنمية مشروعة, ولذا شرع المولى عز وجل
طرقاً لكسبه, وإنفاقه, وتنميته. ب/حفظه من جانب العدم, بتحريم
السرقة والغش, والرشوة..., بل إن الشارع أقام عليها عقوبات مقدرة وغير مقدرة, فقال
تعالى في حد السرقة: ﴿ وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ
فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ
عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ وترك العقوبات غير المقدرة للحاكم يتصرف فيها وفق ما
تقتضيه المصلحة.
القسم
الثاني: المقاصد الحاجية :
وهي الأمور التي يحتاجها الناس لتأمين شؤون الحياة
بيسر وسهولة, وتدفع عنهم المشقة, فإذا فُقدت هذه الأمور لا يختل نظام حياتهم,
ولا يتهدّد وجودهم, ولكن يلحقهم الحرج والضيق, لذلك تأتي الأحكام التي تحقق هذه المصالح
الحاجية للناس لتساعدهم على صيانة مصالحهم الضرورية وتأديتها.
وهي
جارية في العبادات والعادات والمعاملات والجنايات.
ففي العبادات
: شرعت الرخص المخففة للمشقة المترتبة على السفر والمرض.
وفي العادات
: أبيح الصيد والتمتع بالطيبات مما هو حلال مأكلاً ومشرباً وملبساً ومركباً وما
إليه.
وفي المعاملات : شرعت القسامة,
وضرب الدية على العاقلة وتضمين الصُنَّاع,
وما أشبه ذلك.
القسم الثالث
: المقاصد التحسينية :
وهي الأمور التي
تتطلبها المروءة والآداب ومكارم الأخلاق, ويحتاج الناس إليها لتسيير شؤون حياتهم
على أكمل وجه, وإذا فقدت لا تختل شؤون الحياة, ولا ينتاب الناس الحرج والمشقة, ولكن
يحسُّون بالخجل وتستنكر عقولهم, وتأنف فطرتهم من فقدها.
وهي
جارية فيما جرى فيه الأوليان, وأمثلة ذلك ما يلي:
ففي العبادات
: شُرعت الطهارات كلها, وستر العورة, وأخذ الزينة, والتقرب بنوافل
الخيرات...الخ.
وفي العادات
: كآداب الأكل والشرب ومجانبة المآكل النجسات, والمشارب المستخبثات, والإسراف
والاقتار في المتناولات.
وفي
المعاملات : كالمنع من بيع النجاسات وفضل الماء والكلأ, وما أشبه ذلك.
وفي الجهاد :
كمنع قتل النساء والصبيان والرهبان, وما إلى ذلك.
وكل مرتبة من هذه المراتب الثلاث لها تتمة وتكملة
بحيث لو فقدت لم يخلَّ بحكمتها الأصلية, أي أنَ فقد المكمل والمتمم لا يعود على
الأصل بالإبطال.
الأحكام
المتممة والمكمّلة للمصالح:
اقتضت الحكمة الإلهية
أن تضع أحكاماً تشريعية إضافية مكمّلة للأحكام التي شرعت لحفظ كل نوع من أقسام
المصالح, لتصبح أماناً احتياطياً, وسياجاً واقياً لتكون الشريعة تامّة وكاملة كما
ارتضاها لنا المولى عزّ وجل.
1/شرع الإسلام الصلاة لحفظ الدين, وشرع للصلاة أحكاماً تكميلية كالآذان لإعلانها,
وصلاة الجمعة في المسجد, وخطبة الجمعة والعيدين لتعليم الناس أمور دينهم.
2/شرع القصاص لحفظ النفوس, وشرع لإكماله التماثل في النفس
والعضو والجروح.
3/وشرع النكاح لحفظ النسل والنسب, وشرع لإكمال المقصد منه الإعفاف, والقيام
بحقوق الزوجية, وحسن المعاشرة, والسعي لكسب الحلال, والقيام بشؤون البيت.
4/وحرَّم الإسلام الزنا لحفظ العرض وصون النسل, وشرع لإكماله غض البصر والاستئذان
عند دخول البيت وحرّم التبرّج وإبداء الزينة, وحرّم الخُلوة بالمرأة الأجنبية.
5/وحرم الإسلام الخمر لحفظ العقل, وشرع لإكماله تحريم القليل منه, ولو
لم يسكر, كما طلب الشارع التورّع عن الشبهات.
وشرع الإسلام لتكميل
الحاجيات الشروط في العقود ونهى عن الغرر والجهالة, المفضيات إلى التخاصم
والتحاقد. وفي التحسينات بيّن الشارع شروط الطهارة, والإنفاق من الكسب الطيب وأن
يحسن المسلم الأضحية والعقيقة, ونهى عن الإسراف والتقتير.
وقد شرط
الشاطبي في كل تكملة – من حيث هي تكملة – أن لا يعود اعتبارها على الأصل بالإبطال,
فإن أفضى اعتبارها إلى هدم أصلها فلا يلتفت إليها, وذلك لوجهين:
الأول: أن في إبطال الأصل
إبطالُ التكملة, لأن التكملة مع ما كملته كالصفة مع الموصوف.
الثاني: لو قدر تقديراً أن
المصلحة التكميلية تحصل مع فوات المصلحة الأصلية لكان حصول الأصلية أولى لما بينهما
من التفاوت.
ثم وضع
الشاطبي قواعد خمسة أوضح فيها ما تكون عليه المقاصد الضرورية إذا تعرضت للاختلال,
وهي:
1/أن الضروري أصل لما
سواه من الحاجي والتكميلي.
2/أن اختلال الضروري يلزم
منه اختلال الباقين بإطلاق (اختلالاً تاماً).
3/أنه لا يلزم من اختلال
الباقيين اختلال الضروري.
4/أنه قد يلزم من اختلال
التحسيني بإطلاق أو الحاجي بإطلاق اختلال الضروري بوجه ما.
5/أنه ينبغي المحافظة على
الحاجي وعلى التحسيني لحفظ الضروري.
ومرماه من تقرير هذه القواعد وتوضيحها, الوصول إلى
النتيجة التالية: على المرء أن يعتني بهذه المكملات حتى يأتي بالضروري كاملاً
ومتيناً ومحصناً.
يقول الشاطبي:...
"... الصلاة – مثلاً – إذا تقدمتها الطهارة أشعرت بتأهب لأمر عظيم , فإذا
استقبل القبلة أشعر التوجه بحضور المتوجّه إليه, فإذا أحضر نية التعبد أثمر الخضوع
والسكون, ثم يدخل فيها على نسقها بزيادة السورة خدمة لفرض أم القرآن, لأن الجميع
كلام الرب المتوجه إليه, وإذا كبّر وسبّح وتشهّد فذلك كله تنبيه للقلب, وإيقاظ له
أن يغفل عما هو فيه من مناجاة ربه والوقوف بين يديه, وهكذا إلى آخرها, فلو قدّم
قبلها نافلة كان ذلك تدريجاً للمصلي واستدعاءً للحضور, ولو أتبعها نافلة أيضاً
لكان خليقاً باستصحاب الحضور في الفريضة".إلى قوله : "فأنت ترى أن هذه
المكملات الدائرة حول حمى الضروري خادمة له ومقوية لجانبه, فلو خلت عن ذلك أو عن
أكثره لكان خللاً فيها, وعلى هذا الترتيب يجري سائر الضروريات مع مكملاتها لمن
اعتبرها".
ما يترتب
على هذا التقسيم: تظهر أهمية هذا التقسيم في مسائل الترجيح بين المصالح, وذلك على
الترتيب التالي:
1/الضروري. 2/مكمّل للضروري. 3/الحاجي . 4/مكمّل للحاجي. 5/التحسيني . 6/مكمّل للتحسيني.
فإذا حصل
تعارض بين مصلحتين, نتج عن هذه المراتب الست عدة حالات, نذكر بعضها:
1/ أن تكون كلا المصلحتين في رتبة
الضروري, إلا أن الأولى تتعلق بحفظ الدين, والثانية تتعلق بحفظ النفس وما دونها,
فترجّح الأولى على الثانية. مثال ذلك :
قتل أسرى المسلمين الذي تترّس بهم الكفار – ليداهموا أرض المسلمين,
فيقتلونهم ويفتنون من بقي منهم عن دينه – لأن في قتلهم كسراً لشوكة الكفار, وينتج
عنه المحافظة على الدين, وهي أقوى من مصلحة المحافظة على النفس فرجحت عليها.
2/أن تكون الأولى في رتبة الضروري
والثانية في رتبة المكمّل له, فترجح الأولى على الثانية. مثال ذلك
: الجهاد وراء الإمام الفاسق, لما جاء في سنن أبي داود: "الجهاد واجب
عليكم مع كل أمير: براً كان أو فاجراً", فجهاد الكفار من أجل حفظ الدين
ضروري, وتوفر العدالة في الإمام الذي نجاهد خلفه مكمّل لهذا الضروري, لذا رجح ما
هو في رتبة الضروري على ما هو مكمّل له. فجاز أن نجاهد وراء الفاسق.
3/أن تكون الأولى في رتبة الضروري
والثانية في رتبة الحاجي, فترجح الأولى على الثانية. مثال ذلك : من أشرف على الهلاك ولا
يوجد أمامه إلا الحرام كالميتة, فإن ترك الميتة أخل بالضروري وأهلك نفسه, وإن
تناول الميتة حافظ على الضروري على حساب الحاجي المتمثل في تناول الحلال, فيجب
عليه أن يتناول الميتة بالقدر الذي يحافظ فيه على حياته.
4/أن تكون الأولى حاجية والثانية
تحسينية, فترجح الأولى على الثانية. مثال ذلك
: الصلاة خلف الإمام الفاسق لما جاء في الحديث: "...والصلاة واجبة عليكم
خلف كل مسلم, براً كان أو فاجراً, وإن عمل الكبائر" رواه أبو داود. فصلاة
الجماعة من شعائر الإسلام وهي في رتبة الحاجي, وأداؤها وراء الإمام الصالح من
التحسينات, فإذا انعدم الصالح وحلّ محله الفاسق تعينت صلاة الجماعة وراءه, إقامة
لهذه الشعيرة, ترجيحاً للحاجي على التحسيني.
بعض
القواعد الفقهية المتعلقة بترجيح المصالح:
وأختم هذه الفقرة –
حالة تعارض المصالح – بسرد أهم القواعد الفقهية التي وضعها علماء الفقه والأصول
لترجيح أحد الأحكام والمصالح على الآخر, وهي:
1/الضرورات تبيح
المحظورات 2/يتحمل
الضرر الخاص لدفع الضرر العام. 3/يختار
أهون الشرين. 4/يرتكب أخف الضررين لاتقاء أشدهما. 5/المشقة
تجلب التيسير. 6/الحاجة تنزل منزلة
الضرورة. 7/الحرج
مرفوع شرعاً. 8/الضرر يزال شرعاً. 9/الضرر لا يزال بالضرر.
10/دفع المضار مقدّم على جلب
المنافع. 11/درء المفاسد أولى من جلب
المصالح.
مسألة من
المسائل التي ذكرها الشاطبي:
المصالح المجتلبة شرعاً
والمفاسد المستدفعة إنما تعتبر من حيث تُقام الحياة الدنيا للحياة الأخرى, لا من
حيث أهواء النفوس في جلب مصالحها العادية, أو درء مفاسدها العادية, والدليل على
ذلك أمور:
الأول: أن الشريعة إنما جاءت لتُخرْج المكلفين عن دواعي
أهوائهم, حتى يكونوا عباداً لله. وهذا المعنى إذا ثبت
لا يجتمع مع فرضِ أن يكون وضعُ الشريعة على وفق أهواء النفوس, وطلب منافعها
العاجلة كيف كانت, وقد قال ربنا سبحانه }وَلَوِ
اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ{
الثاني : أن المنافع الحاصلة للمكلف مشوبة بالمضار عادة, كما أن المضار محفوفة ببعض
المنافع, كما نقول إن النفوس محترمة محفوظة ومطلوبةُ الإحياء, بحيث إذا دار الأمر
بين إحيائها وإتلاف المال عليها, أو إتلافها وإحياء المال, كان إحياؤها أولى. فإن عارض إحياؤها إماتةَ الدين,
كان إحياء الدين أولى وإن أدَّى إلى إماتتها؛ كما جاء في جهاد الكفار, وقتل
المرتد, وغير ذلك, وكما إذا عارض إحياء نفس واحدة إماتة نفوس كثيرة في المحارب
مثلاً, كان إحياء النفوس الكثيرة أولى. وكذلك إذا قلنا: الأكل والشرب فيه إحياء
النفوس, وفيه منفعة ظاهرة, مع أن فيه من المشآق والآلام في تحصيله ابتداء, وفي
استعماله حالاً, وفي لوازمه وتوابعه انتهاء, كثيراً.ومع ذلك فالمعتبر إنما هو
الأمر الأعظم, وهو جهة المصلحة التي هي عماد الدين والدنيا, لا من حيث أهواء
النفوس, حتى إن العقلاء قد اتفقوا على هذا النوع في الجملة, وإن لم يدركوا من
تفاصيلها قبل الشرع ما أتى به الشرع, فقد اتفقوا في الجملة على اعتبار إقامة
الحياة الدنيا لها أو للآخرة, بحيث منعوا من اتباع جملة من أهوائهم بسبب ذلك. هذا
وإن كانوا بفقد الشرع على غير شيء, فالشرع لما جاء بين هذا كله, وحمل المكلفين
عليه طوعاً أو كرهاً, ليقيموا أمر دنياهم لآخرتهم.
الثالث : أن المنافع والمضارّ عامّتها إضافية لا حقيقية. ومعنى كونها إضافية
أنها منافعُ أو مضارّ في حال دون حال, وبالنسبة إلى شخص دون شخص, أو وقت دون وقت.
فالأكل والشرب مثلاً منفعة للإنسان ظاهرة, لكن عند وجود داعية الأكل, وكون
المتناوَل لذيذاً طيباً, لا كريهاً ولا مراً, وكونه لا يولّد ضرراً عاجلاً ولا
آجلاً, وجهةُ اكتسابه لا يلحقه به ضرر عاجل ولا آجل, ولا يلحق غيره بسببه أيضاً
ضرر عاجل ولا آجل. وهذه الأمور قلما تجتمع, فكثير من المنافع تكون ضرراً على قوم
لا منافع, أو تكون ضرراً في وقت أو حال, ولا تكون ضرراً في آخر. وهذا كله بيِّن في
كون المصالح والمفاسد مشروعة أو ممنوعة لإقامة هذه الحياة, لا لنيل الشهوات, ولو
كانت موضوعة لذلك لم يحصل ضرر مع متابعة الأهواء, ولكن ذلك لا يكون, فدلّ على أن
المصالح والمفاسد لا تتبع الأهواء.
الرابع : أن الأغراض في الأمر الواحد تختلف, بحيث إذا نفذ غرض بعض وهو منتفع به
تضرر آخر لمخالفة غرضه, فحصول الاختلاف في الأكثر يمنع من أن يكون وضعُ
الشريعة على وفق الأغراض, وإنما يستتب أمرها بوضعها على وفق المصالح مطلقاً, وافقت
الأغراض أو خالفتها.
القسم الثاني
: قصد الشارع في وضع الشريعة للإفهام :
أي أن الشارع قصد في
أحكامه الشرعية أن تكون مفهومة للمكلفين كي يتسنى لكل مكلّف فهم المقصود من
التكليف, وهذا الفهم إنما يكون إذا سلّمنا بأمرين اثنين:
الأول : أن هذه الشريعة المباركة جاءت بلسان عربي. الثاني
: أن هذه الشريعة المباركة أميّة.
أما علاقة المسألتين بمقاصد الشريعة فهي أن الفهم
السليم للنصوص الشرعية لا يكون إلا من جهة لسان العرب لقوله تعالى} إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ{ }ِبلِسَانٍ
عَرَبِيٍّ مُبِينٍ{وذلك للخاصية الموجودة في لسان العرب من حيث
الألفاظ والأساليب والمعاني, فالعرب "فيما فطرت عليه من لسانها, تخاطب بالعام
يراد به ظاهره, والظاهر يراد به غير الظاهر, وكل ذلك يعرف من أول الكلام أو وسطه
أو آخره, وتتكلم بالكلام ينبئ أوله عن آخره, أو آخره عن أوله, وتتكلّم بالشيء يعرف
بالمعنى كما يعرف بالإشارة, وتسمي الشيء الواحد بأسماء كثيرة, والأشياء الكثيرة
باسم واحد...".والمنهج الذي وضعه الإمام الشاطبي لفهم النصوص وبالتالي فهم
مقصود الشارع منها يوضحه بقوله: "فالذي يكون على بال من المستمع والمتفهم,
الالتفات إلى أوّل الكلام وآخره بحسب القضية وما اقتضاه الحال منها: لا ينظر في
أولها دون آخرها, ولا في آخرها دون أولها, فإن القضية وإن اشتملت على جمل فبعضها
متعلق بالبعض, لأنها قضية واحدة, نازلة في شيء واحد, فلا محيص للمتفهم عن ردّ آخر
الكلام على أوله, وأوله على آخره, وإذ ذاك يحصل مقصود الشارع في فهم
المكلّف".وهذا لا يعني وجوب تعلم دقائق اللغة والتغلغل في علومها كي يفهمها
المخاطب, فهذه الأمور وُكّلت لذوي الاختصاص.
والحكمة
من إنـزال الشريعة بلسان العرب
هي للمزية التي تختص بها هذه اللغة, فهي تحتمل عدّة
أوجه – كما سبق – وثمرة ذلك نجدها في الفروع الفقهية وهي من أسباب الاختلاف عند
العلماء, الذي هو رحمة ومآله إلى التيسير على الخلق, وهو من مقاصد التشريع العامة.
وزبدة القول : أن القرآن نزل بلسان
العرب على الجملة, فطلب فهمه إنما يكون من هذا الطريق خاصة.
أما
علاقة المقاصد بكون الشريعة أمية
فذلك لأنها لا تحتاج في فهمها ومعرفة أوامرها
ونواهيها, إلى التغلغل في معرفة العلوم الكونية والإنسانية وغيرها, لأنها نزلت على
أمة أميّة, على الفطرة, لقوله تعالى
"هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ " وقوله صلى الله عليه
وسلم: "نحن أمة أميّة لا نحسب ولا نكتب, الشهر هكذا وهكذا وهكذا". متفق
عليه. وقد فسر معنى الأمية في الحديث, أي ليس
لنا علم بالحساب ولا بالكتاب.
فإذا جاء الأمر بإقامة
الصلاة – مثلاً – في أوقاتها المخصصة لها لن يحتاج المرء إلى الآلات والتقاويم
الفلكية, وإنما المشاهدات الحسيّة تفي بالغرض كما هو الحال في الزوال والغروب
والشفق والظلال وطلوع الفجر والشمس, وكذلك الحال في الصيام: "لا تصوموا حتى
تروا الهلال ولا تفطروا حتى تروه فإن غُمَّ عليكم فأكملوا العدة ثلاثين" متفق
عليه. ولم يطالبنا بحساب سير الشمس مع القمر في المنازل لأن ذلك لم يكن من معهود
العرب ولا من علومها, ولدقة الأمر فيه وصعوبة الطريق إليه. وفي الحديث: "إذا
أقبل الليل من ههنا وأدبر النهار من ههنا وغربت الشمس فقد أفطر الصائم" رواه
الخمسة إلا النسائي. فتنزيل الشريعة على مقتضى
حال المنزّل عليهم أوفق برعاية المصالح التي يقصدها الشارع الحكيم. وهذا شامل حتى
للأمور الاعتقادية, فهي قريبة إلى الفهم, سهلة على العقل, بحيث يشترك فيها
جمهور الناس, لذلك تجد الشريعة لم تُعرّف من الأمور الإلهية إلا بما يسع فهمه,
وأحالت فيما يقع فيه الاشتباه على قاعدة عامة هي قوله تعالى:
" لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ"
وسكتت
على أشياء لا تهتدي إليها العقول. وفي مخاطبتهم بدلائل التوحيد كان يلفت الأنظار
إلى السماء والأرض والجبال والسحاب والنبات وهي مما يعرفونه, وكذلك في إخبارهم
بنعيم الجنة وأصناف ذلك مما هو مفهوم في تنعماتهم في الدنيا لكنه مبرأ من الغوائل
والآفات التي لا تلازم التنعيم الدنيوي, كما في قوله تعالى
" فِي سِدْرٍ مَّخْضُودٍ وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ
وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ وَمَاء مَّسْكُوبٍ
وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ لّا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ وَفُرُشٍ مَّرْفُوعَةٍ
إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاء "وبين لهم مأكولات الجنة
ومشروباتهم كاللبن والعسل, والماء والتمر والنخيل والأعناب دون الجوز واللوز
والكمثرى والتفاح وغير ذلك من فواكه الأرياف وبلاد العجم وإنما أجمل ذلك في لفظ
الفاكهة. والمقصد من هذا كله دخول جمهور
المكلفين من عرب وغيرهم تحت أحكام التكليف التي لا تتوقف على وسائل علمية وعلوم
كونية وما شابه ذلك.غير أن هناك أموراً في هذه الشريعة يدق فهمها على عموم
الناس, تُركت لخواص المجتهدين يسبرون غورها لمعرفة كنهها
" ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ
وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ
"
توضيح
مهم لهذا القسم (الثاني : قصد الشارع في وضع الشريعة للإفهام): المراد به : أن الشارع عندما وضع أحكامه قصد أن تكون مفهومة
للمكلفين, وقد نزلت على عرب أميين؛ فلا سبيل إلى فهمها إلا من خلال لغتهم وحالهم.
كيف ترد
على من يرد أن يفسر أحكام الشريعة اليوم تفسيراً عصرياً ؟ ماذا يبنى على كون
الشريعة نزلت على عرب أميين من شروط لفهمها؟
1/ أن الشريعة لا يفهمها
حق الفهم إلا من فهم اللغة العربية حق الفهم. 2/لا بد في فهم
الشريعة من إتباع ما عهده وتعارف عليه العرب الذين نزل القرآن الكريم بلسانهم؛ فلا
يصح أن يُجرى في فهمها على ما لا يعرفونه.
3/أن يكون الاعتناء بالمعاني المبثوثة في
الخطاب هو المقصود الأعظم, وقد يحصل هذا المقصود بالمعنى التركيبي دون الإفرادي,
فلا يعبأ بالإفرادي حينئذ. بناءً على أن العرب إنما كانت عنايتها بالمعاني
وإنما جاءت الألفاظ من أجلها, لذا ورد أن رجلاً سأل عمر عن قوله: "وفاكهة
وأباً" ما الأب؟ فقال: عمر : نهينا عن التعمق والتكلف, وظاهر هذا أنه إنما
نهى عنه لأن المعنى التركيبي معلوم على أكمله ولا ينبني على فهم هذه الأشياء.
4/أن تكون التكاليف
الاعتقادية والعملية المأخوذة من الأدلة مما يسع الأمي تعقلها, ليسعه الدخول تحت
أحكامها. وعلى هذا فالتعمق في البحث فيها وتطلُّب مالا يشترك الجمهور في فهمه خروج
عن مقتضى كون الشريعة نزلت على قوم أميين.
القسم الثالث
: قصد الشارع في وضع الشريعة للتكليف بمقتضاها:
والمراد
منه: أن الشارع قصد في وضع الشريعة أن تكون الأحكام الشرعية داخلة تحت قدرة
المكلفين, فلم يكلفهم الشارع بما لا يطيقون ولا بما هو شاق عليهم.
وهنا تكلم
الشاطبي عن قضيتين مهمتين جداً, وهما:
1/التكليف
بما لا يطاق: ولا شك أن التكليف بما لا يطاق منفي في الشريعة إجمالاً, وتوضيح ذلك كالتالي:
أقسام التكاليف
من حيث القدرة على أدائها: ثلاثة أقسام:
الأول : ما لم يكن داخلاً تحت كسب المكلف
قطعاً: وذلك بأن يكون الطلب خارجاً عن مقدوره, وهذا النوع من الطلب لا تكليف فيه؛
وذلك لما "ثبت في الأصول أن شرط التكليف أو سببه القدرة على المكلف به, فما
لا قدرة للمكلف عليه لا يصح التكليف به شرعاً وإن جاز عقلاً". وبناءً على هذا
المعنى الذي قرره الشاطبي فإن بعض النصوص الشرعية من الكتاب والسنة التي يفيد
ظاهرها التكليف بما لا قدرة للمكلف عليه يكون التكليف راجعاً فيها إلى التحقيق في
سوابقه أو لواحقه أو قرائنه. أي أن ما يفهم من ظواهر الألفاظ من القصد إلى التكليف
بما لا يطيقه العبد غير مراد, فإن ذلك الطلب في حقيقته متعلق بسوابقه أو لواحقه أو
قرائنه, ومن أمثلة ذلك قوله تعالى "فَلاَ
تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ
" فهذا تكليف متعلق بالسوابق, أي تكليف بالإسلام السابق على الموت فيكون
المراد الإسلام والثبات عليه, لعدم إفادته بمقارنته له وتعذره بعده. ومنها: قوله
صلى الله عليه وسلم: "اتق الله ولا تمت وعليك دين" فيه نهي عن الظلم
بأكل حق غيره, ويتحقق هذا الظلم مع القدرة على تسليم الدين المستحق إلى صاحبه, وفي
الحديث طلب لتركه في سوابقه أو قرائنه, أما ما يتعلق بالسوابق فهو كالظلم السابق
على الموت, ويكون بالرجوع عند التوبة منه, وأما ما يتعلق بالقرائن فهو الظلم الذي
يقارن الموت, مثل: عدم التحلل عند الموت من الظلم, أو تبقي بعض الأشياء التي
اغتصبها في حوزته حتى مات على ذلك, وتكون التوبة منها برد الحقوق إلى أهلها قبل
ذلك. وأما ما يتعلق باللواحق, فمثل من سنّ السنن الحسنة أو السنن السيئة حيث يكون
الأجر أو الوزر له أو عليه بعد الموت, يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "من سن
سنة حسنة فعمل بها, كان له أجرها, ومثل أجر من عمل بها, لا ينقص من أجورهم شيئاً,
ومن سن سنة سيئة فعمل بها, كان عليه وزرها, ووزر من عمل بها لا ينقص من أوزارهم
شيئاً". وإن مما لا يتعلق قصد الشارع بطلبه ولا بالنهي عنه الأوصاف التي جبل
عليها الإنسان, مثل: الطعام والشراب, فهذه أمور لا يطلب برفعها؛ لأنه تكليف بما لا
يطاق, وفي الوقت ذاته لا يطلب تكميل ما نقص من جسمه أو تحسين خلقه, لأن ذلك ليس في
مقدوره, وقد أشار الشاطبي إلى بعض الأوصاف الجبلية التي تتعلق بباطن الإنسان ولا
تدخل تحت كسبه وقدرته, وقسمها إلى قسمين, وهما: الأول: ما كان
نتيجة عمل كالعلم والحب, والثاني : ما كان
فطرياً في الإنسان ولم يكن نتيجة عمله, مثل: الشجاعة والجبن ونحوهما.
الثاني : ما كان داخلاً تحت كسبه وقدرته قطعاً: وذلك مثل أكثر أفعال
المكلفين التي هي داخلة تحت كسبه, والحكم فيها: أن التكليف فيها المتعلق بها على
حقيقته, سواء أكانت مطلوبة لنفسها أم لغيرها. فخطاب الشارع هنا يحمل على الحقيقة,
والظاهر, لقصد ذلك قصداً مباشراً في إرادة التكليف.
الثالث : مشتبهات الأمور: وهي الأفعال التي
يتجاذبها طرفان: طرف دخولها تحت التكليف ومقدور المكلف وكسبه,
وطرف آخر, وهو عدم دخولها تحت كسبه ولحوقها بما لا يطاق التكليف به, ويظهر هذا في
الأوصاف القلبية والأوصاف الجبلية, وهذا النوع: "حق الناظر فيها أن ينظر في
حقائقها فحيث ثبتت له من القسمين حكم عليه بحكمه". فإن ظهر اشتباهها بالقسم
الأول وهو ما لا يدخل تحت كسب المكلف لم يطالب به قطعاً, وإن ظهر اشتباهها بالقسم
الثاني وهو ما كان داخلاً تحت كسبه تعلق بها الطلب والتكليف.
ومن أمثلة ذلك الحب والبغض والغضب
والخوف, فهذه أمور ينظر إليها من وجهين :
الأول : أن يكون في أصل خلقة
الإنسان فلا يتعلق بها طلب, وإنما الطلب يتعلق بتوابعها مما يكتسبها الإنسان,
فيكون التعلق منوط بتلك الأفعال التي ترتبت وأوقعها المكلف, لا مما نشأت عنه
الأفعال, كالحب والبغض.
الثاني : أن تكون هذه الأوصاف لها باعثٌ من غيره, فتثور وتنشأ فيه
فيرتب عليه أفعالاً, فيكون الطلب وارداً على ذلك المثير إذا كان داخلاً تحت كسبه. مثل :
النهي عن الغضب, متعلق بأصل الخلقة مما لا يتعلق به الطلب؛ لأنه خارج عن المقدرة
غالباً, فيكون التكليف متعلقاً بتجنب أسباب الغصب, وهو من السوابق, وله تعلق أيضاً
بلواحقه المتمثلة في تجنب الفعل المفضي إلى فساد أو ظلم أو أذى بعد التلبس بالغضب.
القضية
الثانية: التي تكلم عنها الشاطبي في هذا القسم : التكليف بما فيه مشقة :
والمشقة في اللغة: بمعنى الجهد والشدة
والعناء.
أما في الاصطلاح فلها معنيان: معنى عام وهي ما يكون
شاملاً للمقدور وغير المقدور عليه .
معنى خاص: وهي المشقة الخاصة
بالمقدور عليه, وهي ما يمكن فعله مع وجود عناء وجهد في ذلك الفعل, وهذا المعنى هو
المراد هنا.
أقسام المشقة
عند الشاطبي :
أولاً : المشقة غير المعتادة:
وهي التي لم
تكن مألوفة ولا معتادة في تكاليف الشارع, ومنه يعلم أن الشارع
لم يقصد التكليف بالمشاق والإعنات فيه, ولهذا لم نجد في التكاليف الشرعية مشقة هي
خارجة عن المعتاد, وهذا النوع من المشقة الخارجة عن المعتاد التي لم يقصدها الشارع
في تكاليفه "يكون خاصاً بالمقدور عليه إلا أنه خارج عن المعتاد في الأعمال
العادية بحيث يشوش على النفوس في تصرفاتها ويقلقها في القيام بما فيه تلك
المشقة", وهذه المشقة الخاصة الخارجة عن الاعتياد على نوعين :
الأول :المشقة المختصة: أي أن تكون هذه المشقة مختصة بأعيان الأفعال الملكف بها؛ بحيث لو وقعت
مرة واحدة لوجدت فيها مشقة, وقد وضعت الرخص الشرعية المشهورة لهذا الموضع من
المشاق, مثل: الصوم في المرض, والسفر, ونحو ذلك.
الثاني :المشقة العامة
: وهي المشقة التي لا
تكون مختصة "ولكن إذا نظر إلى كليات الأعمال والدوام عليها صارت شاقة ولحقت
المشقة العامل بها". ويظهر هذا في النوافل الذي يزيد فيها المكلف فوق
الحد الذي يحتمله وتلحقه بذلك المشقة بالدوام عليها, وفي هذا جاءت بعض النصوص
النبوية التي تنبه على مقصد الشارع في مثل هذا النوع من المشاق, مثل قوله صلى الله
عليه وسلم: "خذوا من الأعمال ما تطيقون فإن الله لن يمل حتى تملوا".
وهذا النوع من المشاق غير مقصود, للشارع,
ويدلل الشاطبي على عدم قصد الشارع للمشاق بجملة
من الأدلة منها:
الأول : النصوص الدالة على ذلك,
مثل قوله تعالى " وَيَضَعُ
عَنْهُمْ إصْرَهُمْ والأغْلالَ
الّتِـي كانَتْ عَلَـيْهِمْ " وقال تعالى "لا
يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا" "وَمَا
جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ"
"يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ
الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا"وفي الحديث: "ما
خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا أخذ أيسرهما ما لم يكن إثماً, فإن
كان إثماً كان أبعد الناس منه".
الثاني: ما ثبت من مشروعية
الرخص التي ترخص الفطر والقصر والجمع وغيرها, وما جاء من النهي عن التكلف والتعمق
في التكاليف الشرعية, والنصوص الشرعية في ذلك كثيرة, ولو كان الشارع قاصداً في
التكليف المشقة والإعنات لما أذن في الرخص قصد التخفيف.
الثالث : الإجماع على عدم وقوعه
وجوداً وفي ذلك دلالة على عدم قصد الشارع لذلك.
الرابع : لو وقع الإعنات والمشقة
وكان مقصوداً شرعاً لحصل في الشريعة التناقض والاختلاف وذلك محال, فإنه إذا كان وضع
الشريعة على قصد الإعنات والمشقة, وقد ثبت أنها موضوعة على قصد الرفق والتيسير كان
الجمع بينهما تناقضاً واختلافاً وهي منزهة عن ذلك.
ثانياً : المشقة المعتادة: وهذا
النوع من المشقة مألوف ومعتاد في تكاليف الشارع, وهي كما قرره
الشاطبي: ما كان "خاصاً بالمقدور عليه, وليس فيها من التأثير في تعب النفس
خروج عن المعتاد في الأعمال العادية, ولكن نفس التكليف بها زيادة على ما جرت به
العادات قبل التكليف شاق على النفس؛ ولذلك أطلق عليه اسم التكاليف". فإطلاق
المشقة على هذا النوع من التكاليف من حيث دخول المكلف في أعمال زائدة على ما
اقتضته تكاليفه في مجاري العادات في الحياة الدنيا. ولهذا فلا نزاع كما يرى
الشاطبي في أن الشارع قاصدٌ للتكاليف بما يلزم فيه كلفة ومشقة, ولكن هذه المشقة
محتملة في مقدور المكلف لا تسمى في العادة المستمرة مشقة, ولا يفهم من قصد
الشارع التكليف بما فيه مشقة معتادة قصده أيضاً طلب المشقة من جهة نفس المشقة, بل
من جهة ما في ذلك من منافع ومصالح عائدة على المكلفين, ونقل الشاطبي الإجماع
في ذلك بقوله: "والإجماع أن الشارع يقصد بالتكليف المصالح على الجملة".
هذا من جهة المشقة
المعتادة, أما من جهة المكلف بها, وهو الإنسان المكلف, فعليه أن لا يقصد المشقة في
التكليف, وإنما عليه أن يقصد العمل الذي يعظم أجره لعظم مشقته من حيث هو عمل,وما
يقرره الشاطبي من جهة قصد المكلف هو أنه "إذا كان قصد المكلف إيقاع المشقة
فقد خالف قصد الشارع من حيث إن الشارع لا يقصد بالتكليف نفس المشقة. وكل قصد يخالف
قصد الشارع باطل, فالقصد إلى المشقة باطل", بل إن ذلك قد يوقع المكلف في
الإثم لمناقضته لمقصد الشارع, وإذا كان الشارع لا يقصد المشقة غير المعتادة في
التكاليف الشرعية, فإنه لا شك قاصد رفع الحرج عن المكلفين.
ويعلل
الشاطبي رفع الحرج عن المكلفين بوجهين:
الأول : الخوف من بغض العبادة : فعدم رفع الحرج يسبب
بغض العبادة وكراهية التكليف ويخشى دخول الفساد على المكلف في جسمه أو عقله أو
ماله أو حاله. وهذا ما جعل الشريعة المباركة تأتي على الحنفية السمحة سهلة المأخذ
تقصد حفظ قلوب الخلق من النفرة عنها بل حُببت الشريعة إليهم, بحيث لو يعملوا على
خلاف سماحة الشريعة وسهولتها يكونون بذلك قد تكلفوا ما به قد لا تقبل أعمالهم, وفي
الحديث: "عليكم من الأعمال ما تطيقون فإن الله لا يمل حتى تملوا". يقول
ابن عاشور في بيان سماحة الإسلام بوصفها أحد أهم أوصاف الشريعة وأكبر مقاصدها:
"السماحة سهولة المعاملة في اعتدال, فهي ربط بين التضييق والتساهل, وهي راجعة
إلى معنى الاعتدال والعدل والتوسط". وهناك نصوص كثيرة تؤكد هذا المعنى منها
قوله تعالى "يَا
أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ
" وقوله "يُرِيدُ
اللَّهُ بِكُمُ اليُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ
" وقوله "وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ"
ومن
السنة قوله صلى الله عليه وسلم: "إن الدين يسر ولن يشاد هذا الدين أحد إلا
غلبه". وقوله لعلي ومعاذ رضي الله عنهما حين بعثهما إلى اليمن: "يسرا
ولا تعسرا, وبشرا ولا تنفرا". إلى نصوص أخرى متظافرة تؤكد المعنى نفسه. وقد
أشار الشاطبي إلى معنى دقيق لخصه في قوله : "إن النهي لعلة معقولة المعنى
مقصودة للشارع, وإذا كان كذلك, فالنهي دائر مع العلة وجوداً وعدماً, فإذا وجد ما
علل به الرسول صلى الله عليه وسلم كان النهي متوجهاً ومتجهاً وإذا لم توجد فالنهي
مفقود". وهذه القاعدة في الحقيقة كفيلة بحل الإشكال الذي يبدو بين ظواهر
النصوص الشرعية التي تنهي عن طلب المشقة في التكاليف الشرعية, وبين بعض التطبيقات
العملية من الصحابة والتابعين وأهل الصلاح والتقوى والفضل الذين أخذوا أنفسهم
بالشدة وعزائم الأمور. فالنهي هنا معلل وهو معقول المعنى وهو دائر مع العلة وجوداً
وعدماً. فطائفة من الناس يسبب لها دخولها في المشقة الزائدة ضجراً أو مللاً
وفتوراً, فمثل هؤلاء لا ينبغي أن يرتكبوا من الأعمال ما فيه تلك المشقة الزائدة,
بل عليهم أن يترخصوا بحسب ما شرعه الشارع من الرخص, وهناك طائفة أخرى لا يدخل
عليهم الملل ولا الكسل لوازع هو أشد من المشقة لما لهم من حب الله وحب العمل له,
ولما يشعرون به من اللذة في العبادة بحيث صارت المشقة في حق أحدهم غير مشقة, بل
يزيده كثرة العمل وكثرة العناء نوراً وراحة أو يحفظ عن تأثير ذلك المشوش بها في
العمل بالنسبة إليه أو إلى غيره ما جاء في الحديث : "أرحنا بها يا
بلال", وقوله صلى الله عليه وسلم: "وجعلت قرة عيني في الصلاة",
وعلى هذا المعنى تحمل سائر الأحوال التي نقلت عن الصحابة والتابعين وأهل الصلاح,
ويعلل الشاطبي ذلك بأن "ما ذكر عن الأولين من الأعمال الشاقة التي لا يطيقها
إلا الأفراد هيأهم الله لها وهيأهم لها وحببها إليهم, ولم يكونوا بذلك مخالفين
للسنة, بل كانوا معدودين في السابقين, جعلنا الله منهم, وذلك لأن العلة التي
لأجلها نهى عن العمل الشاق مفقودة في حقهم فلم ينتهض النهي في حقهم".
الثاني: الخوف من التقصير : وهو الوجه الثاني الذي
يبرر رفع الحرج عن المكلفين, وذلك لتعلق كثير من الوظائف المختلفة بالعبد, فقد
يقصر فيها ولا يؤديها لانشغاله بكثرة التكاليف "فإن المكلف مطلوب بأعمال
ووظائف شرعية لابد له منها, ولا محيص له عنها, يقوم فيها بحق ربه تعالى, فإذا أوغل
في عمل شاق فربما قطعه عن غيره ولاسيما حقوق الغير التي تتعلق به, فتكون عبادته أو
عمله الداخل فيه قاطعاً عما كلفه الله به فيقصر فيه, فتكون بذلك ملوماً غير معذور,
إذ المراد منه القيام بجميعها على وجه لا يخل بواحدة منها ولا بحال من أحواله فيها".
ثالثاً : المشقة الخارجة عن مقدور المكلف : ما تقدم من أنواع
المشقات الحاصلة بطلب التكاليف الشرعية تتعلق بأوامر الشارع ونواهيه, والمكلف
يتلبس بالتكليف وتحصل له المشقة اختياراً, ولكن قد تحصل المشقة الداخلة على المكلف
من خارج لا بسببه ولا بسبب دخوله في عمل تنشأعنه, هاهنا ليس للشارع قصد في بقاء
تلك المشقة والصبر عليها كما أنه ليس له قصد في التسبب في إدخالها على النفس, وإذا
لم يكن الشارع قاصداً ذلك كانت تلك المشاق والآلام موضع ابتلاء وتمحيص من العبد,
لجملة مقاصد شرعية أرادها الله تعالى, وإذا كان الأمر كذلك جاز للعبد دفع تلك
المشاق ورفعها والتحرز منها, وذلك حفظاً على حظوظه التي أذن الله تعالى لعباده
فيها "وتكملة لمقصود العبد وتوسعة عليه, وحفظاً على تكميل
الخلوص في التوجه إليه والقيام بشكر النعم". ومن ذلك دفع الم الجوع والعطش
والحر والبرد والتحرز من الأمراض قبل وقوعها والتداوي منها عند وقوعها.
ويقسم
بعض العلماء (العز بن عبد السلام وغيره) المشقة إلى قسمين رئيسين, وهما:
المشقة المعتادة : وهي كما قال العز بن عبد السلام وغيره: هي التي لا
تنفك عن العبادة غالباً. مثل : مشقة الوضوء والغسل في
البرد, ومشقة صلاة الفجر, ومشقة الصوم مع شدة الحر وطول النهار, ومشقة الحج
والجهاد وغير ذلك مما لابد منه حتى تؤدى هذه الفرائض. حكم هذا
النوع : هذه المشقة لا أثر
لها في التخفيف ولا في إسقاط العبادات؛ لأنها لو أثرت لفاتت مصالح العبادات
في جميع الأوقات أو في أغلبها, ثم إنها محتملة ليست بخارجة عن الوسع.
المشقة غير المعتادة : وهي المشقة التي تنفك عن العبادة, وليست هذه المشقة
واحدة النوع والدرجة بل تنقسم إلى ثلاثة أقسام :
القسم الأول :المشقة العظيمة الفادحة
: هي التي لا يستطيع أن يتحملها المكلف في
الأحوال العادية. مثل :
مشقة الخوف على النفس أو الطرف أو منافع الأعضاء. حكم هذا القسم : هذه المشقة توجب
الترخيص والتسهيل؛ لأن حفظ النفوس والأطراف لإقامة مصالح الدنيا والآخرة أولى من
أن تتعرض للفوات في عبادة ثم تفوت أمثالها.
القسم الثاني : المشقة الخفيفة : وهي التي تنفك عن العبادة وهي غير مألوفة, ولكنها خفيفة يمكن
تحملها دون أذى كبير أو عسر عظيم, مثل:
وجه خفيف في أصبع أو صداع يسير أو سوء مزاج خفيف ونحو ذلك.حكم هذا القسم : هذه المشقة لا أثر لها في
الترخيص والتسهيل, لأن تحصيل مصلحة العبادة أولى من دفع مثل هذه المشقة
الخفيفة.
القسم الثالث : المشقة الواقعة بين
هاتين المشقتين (المتوسطة): مثل : وجع الضرس, الحمى
المتوسطة, ونحو ذلك.حكم هذا القسم : هذه
المشقة ينظر فيها, فإن كانت أقرب للقسم الأول ألحقت به وأوجبت التخفيف وإن كانت
أقرب للقسم الثاني ألحقت به ولم توجب التخفيف.
وقد أختلف في
ضبط ذلك الإلحاق:
فضبطها العز بن عبد السلام بأن تضبط مشقة كل عبادة
بأدنى المشاق المعتبرة في تلك العبادة, فإن كانت مثلها أو أزيد منها تثبت الرخصة
بها, وإن كانت دونها لم تثبت الرخصة بها.
ومثل على ذلك بأمثلة كثيرة, منها: أن التأذي بالقمل مبيح
للحلق في حق الناسك, وقد ورد النص بذلك. فلو عرضت لنا مشقة التأذي بمرض ما, فننظر
إن كان مثل مشقة التأذي بالقمل أو أزيد حكمنا بالترخيص وإلا فلا.
مقاصد الشارع
في التكاليف:
الأول/ أن الشارع لم يقصد من وضعه مختلف التكاليف
الشرعية إلحاق العنت بالمكلفين, وقد أشار الشاطبي إلى
هذه القاعدة دفعاً للالتباس الذي قد يحدث من تلبس عموم المكلفين ببعض التكاليف
التعبدية التي ظاهرها فيه مشقة وعنت على نفس المكلف. يقول الشاطبي : "فإن
الشارع لم يقصد إلى التكاليف بالشاق الإعنات فيه", وهذا يدل على أن المشقة
وإن كلف بها فهي مشقة محتملة, ولا يقصد الشارع من وراء التكليف بمقتضاها
إلحاق العنت بالمكلفين, ولهذا قال الشاطبي, "شرط التكليف أو سببه القدرة على
المكلف به, فما لا قدرة للمكلف عليه لا يصلح التكليف به شرعاً وإن جاز
عقلاً".ويؤكد الشاطبي على ابتناء الشريعة في تكاليفها الشرعية على الوسطية
والاعتدال فـــ "الشريعة جارية في التكليف بمقتضاها على الطريق الوسط الأعدل
الآخذ من الطرفين بقسط لا ميل فيه". فجميع التكاليف الشرعية قائمة على مبدأ
الاعتدال, يقول الشاطبي مؤكداً على مقصد الشارع في التكاليف ومراعاة التوازن في
التكاليف "فإذا نظرت في كلية شرعية فتأملها تجدها حاملة على التوسط, فإن رأيت
ميلاً إلى جهة طرف من الأطراف؛ فذلك في مقابلة واقع أو متوقع في الطرف
الآخر". فهذا ضابط لفهم مبدأ التوسط في التكاليف الشرعية وطريقة فهم ذلك,
ويعرف التوسط بالشرع أو بالعوائد أو ما يشهد به معظم العقلاء, كما في الإسراف
والإقتار في النفقات, وإنما يقع التشديد بالتخويف في الترهيب والزجر, كما يقع
التخفيف بالترجيه والترخيص والترغيب, فتجد الوعد والوعيد بين طرفي التشديد
والتخفيف "فإذا لم يكن هذا, ولا ذاك رأيت التوسط لائحاً ومسلك الاعتدال
واضحاً, وهو الأصل الذي يرجع إليه, والمعقل الذي يلجأ إليه".
ثانياً/إخراج المكلف من اتباع هواه, ومخالفة
ما تهوى الأنفس, لأن النفس مجبولة على اتباع هواها "ولكن
الشارع إنما قصد بوضع الشريعة إخراج المكلف عن إتباع هواه حتى يكون عبداً
لله".
ثالثاً/أن من مقاصد الشارع في رفع المشاق غير
المعتادة التي يحصل بها فساد ديني أو دنيوي هو الحفاظ على مصالحهم, اما إذا كانت المصلحة
خارجة عن المعتاد بأن كانت تلك المشقة مثل الأعمال العادية "فإن الشارع وإن
لم يقصد وقوعها فليس بقاصد رفعها أيضاً", فلم يتعلق بها نفي أو إثبات.ومما لا
شك فيه أن الشارع يقصد من التكاليف الشرعية تحقيق مصالح العباد في العاجل والآجل,
وكما قال الشاطبي: "لا ينازع في أن الشارع قاصد للتكليف بما يلزم فيه كلفة
ومشقة ما", وإن سلّم بأنها مشقة, فإنها مشقة محتملة كما سبق بيانه لا تؤدي
إلى الانقطاع, وبذلك فإذا تضمن التكليف هذه الصفة؛ فذلك من جهة ما تتضمنه من
المصالح العائدة على المكلف, ومنه يخلص إلى أن الشريعة موضوعة على قصد الرفق
والتيسير.
أسباب
التخفيف والتيسير والترخص
هناك أسباب شرعية
للتخفيف والترخيص والتيسير على المكلفين قد ثبتت بالنصوص الشرعية, ومن هذه الأسباب
ما يلي:
1/السفر : حيث قال تعالى "فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ
أُخَرَ" وقد اختلف أهل العلم في
ضبط السفر الذي يباح به الترخص على أقوال معروفة, أقربها هو ما جرى العرف بأنه
سفر, لأن السفر مطلق في الآيات والأحاديث فأنيط الحكم بوجوده دون تحديد, وما لا
تحديد له في الشرع ولا في اللغة فإنه يرجع فيه إلى العرف.
ومن رخص
السفر :
1/قصر الرباعية 2/التيمم عند فقد الماء. 3/الصلاة على الراحلة . 4/الفطر للصائم . 5/جمع الظهرين والعشائين .
6/مسح الخفين يوم وليلة
للمقيم وثلاثة أيام بلياليها للمسافر, وغير ذلك.
2/المرض : ومن أدلته قوله تعالى
" لَيْسَ عَلَى الأعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأعْرَجِ حَرَجٌ
وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ "والمرض الذي يعتبر
سبباً للترخص هو الذي يلحق صاحبه مشقة عند القيام بالتكاليف, فيغلب على ظن المريض
أن حالته الصحية تستدعي التخفيف, إما بأمارة أو تجربة أو إخبار طبيب ثقة.
ومن رخص المرض:
1/التيمم عند مشقة
استعمال الماء. 2/القعود في صلاة
الفرض أو الاضطجاع أو الإيماء حسب حاله.
3/جواز التخلف عن صلاة
الجمعة والجماعة مع ثبوت أجرهما له.
4/جواز الفطر في رمضان, وغير ذلك.
3/
النسيان : لقوله تعالى " ربّنا لا
تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا " وجاء في صحيح مسلم:
قال الله تعالى: قد فعلت).وروى البيهقي بسند حسن قوله صلى الله عليه وسلم:
"إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه). وضابط النسيان :
أولاً : بالنسبة لحقوق الله : فإن النسيان عذر صحيح
فيها, فهو يرفع الإثم مطلقاً أما بالنسبة للأحكام: فإن كان في باب الأوامر , فإن النسيان لا
يسقطها بل يجب تداركها بالإتيان بها أو ببدلها إن كان لها بدل, وإن كان في باب
النواهي فإما أن يكون فيها إتلاف أو لا,
فإن كان فيها إتلاف فيلزم الضمان, وإن لم يكن فيها إتلاف فلا شيء فيها.
ثانياً : بالنسبة لحقوق الآدميين : فلا أثر للنسيان في
إسقاط الضمان.
4/ الجهل
: لحديث المسيء صلاته الذي في الصحيحين, وحديث عمار في التيمم فإنه لم يؤمر
بالإعادة, ونحو ذلك. واختلف في ضبطه والعذر به,
فبعضهم يفرق بين الجاهل المفرّط وغير المفرط, أو بين الجهل في الأمور
المعلومة من الدين بالضرورة وغيرها, وليس هذا محل التفصيل في ذلك, فتفصيل ذلك في
مظانه من كتب أهل العلم. وبعضهم يقسمه إلى أقسام, وهي :
1/الجهل بالله والإيمان به, فهذا لا يعذر به من كان
عالماً بإرسال الرسل.
2/الجهل بما هو معلوم من الدين بالضرورة, فهذا لا يعذر به من عاش
بين المسلمين , ويعذر به من عاش بعيداً عن بلاد المسلمين أو حديث العهد بالإسلام.
3/الجهل في مواضع الاجتهاد أو الاشتباه, فهذا يسقط الإثم, ولكن
يلزم معه استدراك ما يمكن استدراكه.
5/الإكراه لقوله تعالى: ﴿ إِلاَّ
مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ﴾ وحديث (رفع عن أمتي الخطأ
والنسيان وما استكرهوا عليه) وقد تقدم.وقد
اختلف في ضبطه أيضاً, وفرق بعضهم بين الإكراه الملجئ وغيره, أو بين
الإكراه على الأقوال والأفعال ونحو ذلك.
ويشترط له
شروطاً أهمها: 1/أن يكون المكرِه قادراً
على تنفيذ ما هدد به والمكرَه عاجزاً عن دفع ما أكره عليه. 2/أن يكون ما هدد به مما يعسر تحمله كالقتل أو قطع
العضو أو الضرب المؤلم... 3/أن يكون بغير حق.
6/العسر
وعموم البلوى:
والمقصود
بالعسر : هو المشقة التي يعانيها الإنسان لتجنب شيء ما.
وعموم البلوى : هي شيوع البلاء بحيث
يتعذر على الإنسان أن يتخلص منه.
ومن أدلته: قوله صلى الله عليه
وسلم في الهرة: (إنها ليست بنجس, إنها من الطوافين عليكم والطوافات) رواه الخمسة وما
ورد من أن امرأة جاءت إلى أم المؤمنين أم سلمة, فقالت: (إني أطيل ذيلي, وأمشي في
المكان القذر, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يطهره ما بعده) رواه أحمد وأبو
داود وابن ماجه.
ومن أمثلته : العفو عن طين الشوارع
في الأمطار ودم البراغيث والبق في الثياب, ومس المصحف للصبيان لأجل التعلم.
7/الخطأ, لقوله تعالى
"" ربّنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا
" وفي مسلم قال الله: قد فعلت ". وضابط الخطأ : 1/ أنه إن تعلق بحق من
حقوق الله سقط الإثم وقد تسقط المطالبة بالإعادة كمن اجتهد في
القبلة فأخطأ, وقد لا تسقط كمن توضأ بماء نجس فظنه طهوراً, 2/إن تعلق بحق العباد
فإن الإثم يسقط أيضاً, لكن حق العباد لا بد أن يستوفى, فإن كان
جناية وجبت الدية أو القصاص, وإن كان مالاً متلفاً وجب الضمان.
8/النقص
: والمقصود به النقص الذي يحصل بسبب فقد العقل أو بسبب الصغر أو بسبب الأنوثة
أو بسبب العبودية, ونحو ذلك. فالمجنون
والصغير غير مكلفين. والمرأة بسبب ضعفها خفّف الشرع عنها في بعض الأحكام,
كحضور الجمع والجماعات والجهاد وعدم وجوب الصلاة عليها والصيام حال الحيض والنفاس,
وأباح لها لبس الحرير والتحلي بالذهب, ونحو ذلك من الأحكام التي تخالف فيها الرجال
رحمة بها ومراعاة لأنوثتها.والعبودية سبب
أيضاً للتخفيف, في بعض الأحكام, كالجهاد والحج ووجوب الجمعة ونحو ذلك.
أنواع
التخفيفات :
تتنوع تخفيفات الشرع
إلى أنواع حسب ما يناسب كل مشقة, ومن أنواعها:
1/تخفيف الإسقاط:مثل إسقاط الجمعة
والجماعة والحج عن أصحاب الأعذار. 2/ تخفيف التغيير: كتغيير نظم الصلاة
في صلاة الخوف.
2/تخفيف التنقيص:مثل قصر الصلاة
الرباعية إلى ركعتين في السفر. 3/تخفيف الإبدال مثل
: إبدال الغسل والوضوء بالتيمم.
4/تخفيف التقديم :مثل : تقديم الزكاة
قبل حولان الحول للحاجة, والجمع بين الصلاتين تقديماً.
5/تخفيف التأخير:مثل: تأخير صيام رمضان
للمسافر والمريض ومن في حكمهم, والجمع بين الصلاتين تأخيراً.
6/تخفيف الترخيص: مثل : العفو عن أثر
الاستجمار, والتلفظ بكلمة الكفر عند الإكراه
أهم المقاصد
(القواعد) المتعلقة بالمشقة :
1/الشارع قاصد للتكليف
بما يلزم فيه مشقة ما, ولكن لا تسمى في العادة المستمرة مشقة.
2/المشقة ليس للمكلف أن يقصدها في التكليف نظراً إلى عظم أجرها, وله
أن يقصد العمل الذي يعظم أجره لعظم مشقته من حيث هو عمل.
3/إذا كان رفع الحرج مقصوداً للشارع فإن مقصود مقصوده هذا هو : أ/ المداومة
على العمل. ب/التوازن
بين الواجبات . 4/مخالفة الهوى
– وإن كانت شاقة في مجاري العادات- إلا أنها ليست من المشقات المعتبرة في التكليف,
لأن الشارع إنما قصد بوضع الشريعة إخراج المكلف عن اتباع الهوى لا العكس.
5/الأصل
في التشريع أن ينزل على الطريق الأعدل الآخذ من الطرف بقسط لا ميل فيه لكن إذا جاء
لمعالجة انحراف إلى أحد الطرفين فإنه يتسم بميل مضاد إلى الطرف الآخر ليحصل
التوازن.
رفع الحرج في
الشريعة:
أولاً :
الأدلة من القرآن الكريم على التيسير ورفع الحرج :
وردت آيات كثيرة في القرآن الكريم تدل على
التيسير والتخفيف والرحمة والشفقة ورفع الحرج عن هذه الأمة, نذكر منها:
أ/قول الله جل وعلا: ﴿
مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ
حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ
تَشْكُرُونَ﴾. هذا جزء من آية كريمة في سورة المائدة جاء ختاماً للكلام عن
أحكام الوضوء والغسل من الجنابة والتيمم عند فقد الماء أو العجز عن استعماله مما
يبين أن الغاية في هذه التشريعات ليس الإعنات والمشقة وإنما هو تكليف مع تخفيف
للتطهير وإتمام النعمة.
ب/قوله تبارك وتعالى: ﴿ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ
أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ ﴾. هذا جزء من آية كريمة جاء تعقيباً بعد أمر الله
سبحانه وتعالى عباده المؤمنين بالركوع والسجود والإتيان بمجمل الطاعات, من العبادة
وفعل الخير والمجاهدة في الله حق جهاده, حيث يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا
وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ(77)
وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ
عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ
سَمَّاكُمْ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً
عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ...﴾. يقول علماء التفسير في هاتين الآتين من سورتي
المائدة والحج: إن الله سبحانه وتعالى ما كلف عباده مالا يطيقون وألزمهم بشيء يشق
عليهم إلا جعل لهم فرجاً ومخرجاً. فليس هناك ضيق إلا ومنه مخرج ومخلص, فمنه ما
يكون بالتوبة ومنه ما يكون برد المظالم, ولقد كانت الشدائد والعزائم في الأمم
السابقة فأعطى الله هذه الأمة من المسامحة واللين ما لم يعط أحد قبلها رحمة من
الله وإحساناً. فتوبتنا تكون بالندم والعزم على ترك العود والاستغفار بالقلب
واللسان, أما من كان قبلنا..... ﴿ فَتُوبُوا إِلَى
بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ
فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴾. يقول ابن
العربي: "ولو ذهب إلى تعديد نعم الله في رفع الحرج لطال المرام".
ج/ قول الله تعالى: ﴿ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمْ
الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ
وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)﴾.تبين هذه الآية الكريم أن الله سبحانه وتعالى
أراد بتشريعه الأحكام اليسر وهو: كل ما لا يجهد النفس ولا يثقل الجسم. أما العسر: فهو ما يجهد النفس ويضر الجسم,
والآية وإن كانت واردة في شأن الرخص في الصيام إلا أن المراد منها العموم كما صرّح
بذلك غير واحدٍ من المفسرين, وقوله تعالى في هذه الآية: ﴿ وَلا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ ﴾ تأكيد لإرادة اليسر.
ح/قول الله تعالى: ﴿ يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ
الإِنسَانُ ضَعِيفاً﴾. لمّا ذكر الله سبحانه وتعالى المحرمات في النكاح وبين
لنا إباحة نكاح الأمة عند الضرورة والحاجة أتبع ذلك بهذه الآية الكريمة فيكون
متعلق التخفيف المذكور هو إباحة نكاح الأمة ؛ وبهذا قال جماعة من العلماء, وجمهور
العلماء على أن التخفيف المذكور في الآية عام في كل أحكام الشرع وفي جميع ما يسره
لنا وسهله علينا إحساناً منه إلينا.
خ/قول الله تعالى: ﴿لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا﴾ أي
لا يحملها إلا ما تسعه وتطيقه ولا تعجز عنه, فقد ورد النص على أن الله لا يكلف
نفساً إلا وسعها في عدة آيات من القرآن الكريم,
منها: قول الله تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا أُوْلَئِكَ
أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾. قال تعالى بعدما ذكر أعمال
المؤمنين: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ
رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58)
وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ (59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا
آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60)
أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ (61) وَلا
نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنطِقُ بِالْحَقِّ
وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (62)﴾. وقال جل وعلا : ﴿ وَعَلَى
الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ
نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا ﴾ وقال سبحانه: ﴿وَلا
تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ
أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً
إِلاَّ وُسْعَهَا﴾. وقوله تعالى: ﴿لا
يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا﴾ ظاهر الدلالة في عدم التكليف
إلا في حدود القدرة , ثم أعقب هذه الجملة بدعاء يبين فيه ما امتن به سبحانه على
عباده من عدم المؤاخذة بالخطأ والنسيان وحط الأصر والأغلال وعدم التكليف بما لا
يطاق, قال سبحانه: ﴿رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ
نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ
عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا
بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانصُرْنَا
عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾. والأدلة من القرآن الكريم على رفع الحرج
أكثر من أن تحصى وفيما ذكرناه غنية.
ثانياً :
الأدلة من السنة المطهرة على التيسير ورفع الحرج.
لقد أمر النبي صلى الله
عليه وسلم أصحابه بالتيسير ونهاهم عن التعمق والتشديد وأنكر ذلك عليهم. وهذه طائفة
من الأحاديث التي توضح ذلك وتبيّنه.
أ/كان معاذ بن جبل رضي
الله عنه يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم ثم يأتي فيؤم قومه, فصلى ليلة مع النبي
صلى الله عليه وسلم ثم أتى قومه فأمهم فافتتح بسورة البقرة فانحرف رجل فسلم ثم صلى
وحده وانصرف. فقالوا له: أنافقت يا فلان؟ قال: لا والله ولآتين رسول الله
فلأخبرّنه. فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إنا أصحاب نواضح
نعمل بالنهار, وإن معاذاً صلى معك العشاء ثم أتى فافتتح بسورة البقرة. فأقبل رسول
الله صلى الله عليه وسلم على معاذٍ فقال: "يا معاذ أفتّان أنت, إقرأ بكذا
وكذا" وعدّ له بعض السور وفي رواية : "أفتّان أنت يا معاذ".
ب/وفي قصة أخرى جاء رجل
إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "إني لأتأخر عن صلاة الصبح من أجل
فلان مما يطيل بنا" يقول راوي الحديث - وهو أبو مسعود الأنصاري – : فما رأيت
النبي صلى الله عليه غضب في موعظة قط أشد مما غضب يومئذ, فقال: "يا أيها
الناس إن منكم منفرين, فأيكم أمّ الناس فليوجز فإن من وراءه الكبير والضعيف وذا
الحاجة".
ج/وقد جاء عن بعض الصحابة
رضوان الله عليهم أن أرادوا الأخذ بعزائم الأمور ومخالفة الرسول صلى الله عليه
وسلم في بعض ما كان يترخص فيه ظناً منهم أن هذا هو طريق التقوى والخشية وأن ترخصات
النبي صلى الله عليه وسلم خاصة به لأنه قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر, فماذا
قال الرسول صلى الله عليه وسلم لهؤلاء. تقول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها :
صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً فرخص فيه فتنزه عنه قوم, فبلغ النبي صلى
الله عليه وسلم فخطب وحمد الله ثم قال: "ما بال أقوام يتنزهون عن الشيء أصنعه
فوا الله إني لأعلمهم بالله وأشدهم له خشية".
ح/وحينما علم صلى الله
عليه وسلم بقصة الرهط الذين جاءوا إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون
عن عبادته صلى الله عليه وسلم فلما أخبروا بها كأنهم تقالّوها. فقال أحدهم: أما
أنا فأصوم ولا أفطر. وقال الآخر: أما أنا فأصلي الليل أبداً. وقال الثالث: أما أنا
فلا أتزوج النساء, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أنتم الذين قلتم كذا
وكذا... أما والله إني أخشاكم لله وأتقاكم له, لكني أصوم وأفطر, وأصلي وأرقد,
وأتزوج النساء, فمن رغب عن سنتي فليس مني". عن عائشة رضي الله عنها قالت: ما خيّر رسول الله
صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا أخذ – وفي رواية اختار – أيسرهما ما لم يكن
إثماً, فإن كان إثماً كان أبعد الناس منه.
خ/ عن أبي هريرة رضي الله
عنه قال: قام أعرابي فبال في المسجد فتناوله الناس, فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم :
"دعوه واهريقوا على بوله سجلاً من ماء أو ذنوباً من ماء, فإنما بعثتم ميسرين
ولم تبعثوا معسرين".
يقول الباجي في شرحه
لهذا الحديث: "وهذه سنة من الرفق في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لاسيما
لمن قرب عهده بالإسلام ولم يُعلم منه الاستهانة به فيُعلم أصول الشرائع ويعذر في
غيرها حتى يتمكن الإسلام من قلوبهم, لأنهم إن أخذوا بالتشديد في جميع الأحوال خيف
أن تنفر قلوبهم عن الإيمان وتبغض الإسلام فيؤدي ذلك إلى الارتداد والكفر الذي هو
أشد مما أنكر عليهم".
ثالثاً :
أقوال الصحابة في الأخذ بالتيسير وذم التكلف:
أصحاب رسول الله صلى
الله عليه وسلم هم الفئة الذي اختارهم الله عز وجل ليشاهدوا تنزيل الوحي ويسمعوا
من رسول الله صلى الله عليه وسلم أقواله ويشاهدوا أفعاله, ويأتمرون بأوامره مباشرة
ويسترشدوا بتوجيهاته ويقتدوا بتطبيقاته؛ فهم الذين عاشوا عصر النبوة كما عاشوا
الإسلام خالصاً نقياً. وإليك بعض أقوالهم:
أ/يقول عبد الله بن مسعود
رضي الله عنه : "من كان منكم مستناً فليستن بمن قد مات فإن الحي لا تؤمن عليه
الفتنة, أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانوا أفضل هذه الأمة, أبرها قلوباً
وأعمقها علماً, وأقلها تكلفاً, اختارهم الله تعالى لصحبة نبيه – وإقامة دينه,
فاعرفوا لهم فضلهم واتبعوهم على إثرهم وسيرتهم إنهم كانوا على الهدي
المستقيم".
ب/وقال أنس رضي الله عنه
: كنا عند عمر رضي الله عنه فسمعته يقول: "نُهينا عن التكلف".
ت/وروي أن عمر رضي الله
عنه خرج في ركب فيهم عمرو بن العاص حتى ورد حوضاً, فقال عمر: يا صاحب الحوض, هل
ترد حوضك السباع؟ قال عمر رضي الله عنه : "لا تخبرنا فإنا نرد على السباع
وترد علينا".
ج/مر عمر بن الخطاب رضي
الله عنه يوماً فسقط عليه شيء من ميزاب ومعه صاحب له, فقال: يا صاحب الميزاب, ماؤك
طاهر أم نجس؟ فقال عمر: يا صاحب الميزاب لا تخبرنا" ومضى رضي الله عنه.
فهذه الأقوال من
الصحابة رضوان الله عليهم تدل دلالة واضحة على أنهم نهجوا منهج التخفيف والتيسير,
فكانوا أقل الأمة تكلفاً اقتداءً بنبيهم صلى الله عليه وسلم, قال سبحانه وتعالى: ﴿
قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا
أَنَا مِنْ الْمُتَكَلِّفِينَ ﴾.
رابعاً :
من أقوال التابعين في الأخذ بالتخفيف:
أ/قول عمر بن عبد العزيز
رضي الله عنهما : "أفضل الأمرين أيسرهما عليك" لقوله سبحانه: ﴿ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمْ
الْعُسْرَ﴾. ب/عن سفيان الثوري رحمه
الله أنه قال: "إنما العلم أن تسمع بالرخصة من ثقة فأما التشديد فيحسنه كل
أحد".
ومن هذا العرض الموجز
للأدلة من الكتاب والسنة وأقوال الصحابة والتابعين يظهر لنا بوضوح أن التيسير ورفع
الحرج مقصد من مقاصد الشريعة وأصل مقطوع به من أصولها.
القسم الرابع
: قصد الشارع في دخول المكلف تحت أحكام الشريعة:
المراد
بهذا القسم : (أن المقصد الشرعي من وضع الشريعة إخراج المكلف
من داعية هواه؛ حتى يكون عبداً لله اختياراً, كما هو عبد لله اضطراراً) ومما يدل على
ذلك قوله تعالى: ((وما خلقت الجن والإنس
إلا ليعبدون)).
الفرق بينه
وبين القسم الأول: القسم الأول معناه : أن الشارع وضع نظاماً كافلاً
للسعادة في الدنيا والآخرة لمن تمسك به. وهذا القسم
(الرابع) معناه: أن الشارع يطلب من العبد الدخول تحت هذا النظام
والانقياد له، لا لهواه.
الأدلة
الدالة على أن قصد الشارع دخول المكلف تحت أحكام الشريعة:
1/النص الصريح الدال على أن العباد
خُلقوا للتعبد لله, والدخول تحت أمره ونهيه؛ كقوله تعالى: ((وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون * ما أريد منهم من رزق
وما أريد أن يطعمون)) وقوله تعالى: ((وأمر
أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقاً نحن نرزقك)), وقوله: ((يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم
لعلكم تتقون)) ثم شرح هذه العبادة في تفاصيل السورة كقوله تعالى: ((ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من
آمن) إلى قوله : ((وأولئك هم المتقون)
وهكذا إلى تمام ما ذكر في السورة من الأحكام. وقوله : ((واعبدوا
الله ولا تشركوا به شيئاً)) إلى غير ذلك من الآيات الآمرة بالعبادة على
الإطلاق, وبتفاصيلها على العموم, فذلك كله راجع إلى الرجوع إلى الله في جميع
الأحوال, والانقياد إلى أحكامه على كل حال, وهو معنى التعبد لله.
2/ما دل على ذم مخالفة هذا القصد : من النهي أولاً عن
مخالفة أمر الله, وذم من أعرض عن الله, وإبعادهم بالعذاب العاجل من العقوبات
الخاصة بكل صنف من أصناف المخالفات, والعذاب الآجل في الدار الآخرة. وأصل ذلك
اتباع الهوى والانقياد إلى طاعة الأغراض العاجلة, والشهوات الزائلة. فقد جعل الله
اتباع الهوى مضاداً للحق وعدّ قسيماً له؛ كما في قوله تعالى: ((يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ
فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعْ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ
سَبِيلِ اللَّهِ)) وقال تعالى: ((َأَمَّا مَنْ
طَغَى (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ
الْمَأْوَى (39))). وقال: ((وَأَمَّا مَنْ
خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنْ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ
هِيَ الْمَأْوَى)). وقال: ((وَمَا يَنْطِقُ
عَنْ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى)). فقد حصر الأمر في شيئين: الوحي وهو الشريعة,
والهوى, فلا ثالث لهما. وإذا كان كذلك فهما متضادان, وحين تعين الحق في
الوحي توجه للهوى ضده. فاتباع الهوى مضاد للحق. وقال تعالى: ((أَفَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ
اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ)) وقال: ((وَلَوْ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ
لَفَسَدَتْ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ)). وقال: ((أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ
وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ)). وقال: ((أَفَمَنْ
كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ
وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ)). وتأمل فكل موضع ذكر الله تعالى فيه الهوى
فإنما جاء به في معرض الذم له ولمتبعيه. وقد روي
هذا المعنى عن ابن عباس أنه قال : "ما ذكر الله الهوى في كتابه إلا
ذمه". فهذا كله واضح في أن قصد الشارع الخروج عن اتباع الهوى, والدخول
تحت التعبد للمولى.
3/ما علم بالتجارب والعادات من أن
المصالح الدينية والدنيوية لا تحصل مع الاسترسال في اتباع الهوى, والمشي مع
الأغراض؛ لما يلزم في ذلك من التهار ج
والتقاتل والهلاك, الذي هو مضاد لتلك المصالح. وهذا معروف عندهم بالتجارب
والعادات المستمرة. ولذلك اتفقوا على ذم من اتبع شهواته, وسار حيث سارت به؛ حتى إن
من تقدم ممن لا شريعة له يتبعها, أو كان له شريعة درست, كانوا يقتضون المصالح
الدنيوية, بكف كل من اتبع هواه في النظر العقلي. وما اتفقوا عليه إلا لصحته عندهم,
واطراد العوائد باقتضائه ما أرادوا, من إقامة صلاح الدنيا, وهي التي يسمونها
السياسة المدنية, فهذا أمر قد توارد النقل والعقل على صحته في الجملة, وهو أظهر من
أن يستدل عليه. وإذا كان كذلك لم يصح لأحد أن يدعى على الشريعة أنها وضعت على
مقتضى تشهي العباد وأغراضهم إذ لا تخلو أحكام الشرع من الخمسة, أما الوجوب
والتحريم فظاهر مصادمتها لمقتضى الاسترسال الداخل تحت الاختيار إذ يقال له افعل
كذا كان لك فيه غرض أم لا, ولا تفعل كذا كان لك فيه غرض أم لا, فإن اتفق للمكلف
فيه غرض موافق وهوى باعث على مقتضى الأمر أو النهي فبالعرض لا بالأصل, وأما سائر
الأقسام وإن كان ظاهرها الدخول تحت خيرة المكلف فإنما دخلت بإدخال الشارع لها تحت
اختياره فهى راجعة إلى إخراجها عن اختياره, ألا ترى أن المباح قد يكون له فيه
اختيار وغرض وقد لا يكون فعلى تقدير أن ليس له فيه اختيار بل فى رفعه مثلا, كيف
يقال إنه داخل تحت اختياره فكم من صاحب هوى يود لو كان المباح الفلاني ممنوعاً حتى
إنه لو وكل إليه مثلا تشريعه لحرمه كما يطرأ للمتنازعين فى حق وعلى تقدير أن
اختياره وهواه فى تحصيله يود لو كان مطلوب الحصول حتى لو فرض جعل ذلك إليه لأوجبه
ثم قد يصير الأمر فى ذلك المباح بعينه على العكس فيحب الآن ما يكره غداً وبالعكس,
فلا يستتب في قضية حكم على الإطلاق, وعند ذلك تتوارد الأغراض على الشئ الواحد
فينخرم النظام بسبب فرط اتباع الأغراض والهوى, فسبحان الذى أنزل فى كتابه: ((ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السموات والأرض ومن فيهن))
فإن إباحة المباح مثلا لا توجب دخوله بإطلاق تحت اختيار المكلف إلا من حيث كان
قضاء من الشارع, وإذ ذاك يكون اختياره تابعاً لوضع الشارع, وغرضه مأخوذاً من تحت
الإذن الشرعى لا بالاسترسال الطبيعي, وهذا هو عين إخراج المكلف عن داعية هواه حتى
يكون عبداً لله.
فصل : فإذا
تقرر هذا انبنى عليه قواعد, منها ما يلي:
1/أن كل عمل كان المتبّع فيه الهوى
بإطلاق من غير التفات إلى الأمر أو النهي أو التخيير فهو باطل بإطلاق, لأنه لا بد للعمل من
حامل يحمل عليه وداع يدعو إليه, فإذا لم يكن لتلبية الشارع في ذلك مدخل فليس إلا
مقتضى الهوى والشهوة. وما كان كذلك فهو باطل بإطلاق؛ لأنه خلاف الحق بإطلاق, فهذا
العمل باطل بإطلاق. وتأمل حديث ابن مسعود رضي الله عنه في – الموطأ "إنك في
زمان كثير فقهاؤه, قليل قراؤه, تحفظ فيه حدود القرآن, وتضيع حروفه, قليل من يسأل,
كثير من يعطي, يطيلون في الصلاة ويقصرون في الخطبة يبدءون أعمالهم قبل أهوائهم،
وسيأتي على الناس زمان قليل فقهاؤه كثير قراؤه تحفظ فيه حروف القرآن وتضيع حدوده,
كثير من يسأل, قليل من يعطي, يطيلون فيه الخطبة ويقصرون الصلاة, يبدءون فيه
أهواءهم قبل أعمالهم". والشاهد هنا قوله في الفريق الأول: "يبدؤون أعمالهم قبل أهوائهم" وفي الفريق الثاني: يبدأون فيه أهواءهم قبل
أعمالهم" : والمراد أن عمل الفريق الأول يبدأ قبل ظهور شهوتهم وهواهم
فيه, فإذاً عملهم يحمل عليه شيء آخر غير الهوى, وهو انقيادهم إلى ما شرعه الله,
أما هواهم فمرتبته متأخرة عن البدء في العمل, فليسوا فيه متبعين للهوى بخلاف
الفريق الآخر الذي لا يبدأ في العمل إلا بعد ظهور الهوى فيه, فإن المتغلب عليه في
العمل هواه, وشتان بين الفريقين. فأما
العبادات فكونها باطلة ظاهر, إذا كان المتبع فيها هو الهوى بإطلاق. وأما العادات فذلك من حيث عدم ترتب الثواب على
مقتضى الأمر والنهي فوجودها في ذلك وعدمها سواء وكذلك الإذن فى عدم أخذ المأذون
فيه من جهة المنعم به. وكل فعل كان المتبع فيه بإطلاق الأمر أو النهي أو
التخيير فهو صحيح وحق؛ لأنه قد أتى به من طريقة الموضوع له, ووافق فيه صاحبه قصد
الشارع, فكان كله صواباً, وهو ظاهر.
وأما إن امتزج فيه الأمران فكان معمولاً بهما,
فالحكم للغالب والسابق. فإن كان السابق أمر الشارع بحيث قصد العامل
نيل غرضه من الطريق المشروع فلا إشكال في لحاقه بالقسم الثاني, وهو ما كان المتبع
فيه مقتضى الشرع خاصة.إلا أن هنا شرطاً معتبراً وهو أن يكون ذلك الوجه الذي حصَّلَ
أو يحصِّل به غرضه مما تبين أن الشارع شرعه لتحصيل مثل ذلك الغرض, وإلا فليس
السابق فيه أمر الشارع. وإن كان الغالب
والسابق هو الهوى وصار أمر الشارع كالتبع, فهو لاحق بالقسم الأول, أي
المتبع فيه الهوى بإطلاق.
وعلامة الفرق بين
القسمين تحرّي قصد الشارع وعدم ذلك, فكل عمل شارك العامل فيه هواه فانظر, فإن كف
هواه ومقتضى شهوته عند نهي الشارع, فالغالب والسابق لمثل هذا أمر الشارع, وهواه
تبع. وإن لم يكن, فالغالب والسابق له الهوى والشهوة, وإذن الشارع تبعٌ لا حكم له
عنده. فمن اعتاد أكل اللحم من مكان معين فيحتمل أن يكون في ذلك تابعاَ لهواه,
ويحتمل أن يكون تابعاَ لإذن الشارع, فإن علم أن هذا اللحم حرام فانكف دل أن هواه
تبع, وإن لم يمتنع دل على أن هواه سابق. ومنها : أن اتباع الهوى طريق إلى المذموم,
وإن جاء في ضمن المحمود؛ لأنه إذا تبين أنه مضاد بوضعه لوضع الشريعة, فحيثما زاحم
مقتضاها في العمل كان مخوفاً.
الأدلة على
ذلك:
1/ أنه سبب تعطيل الأوامر وارتكاب
النواهي, لأنه مضاد لها.
2/ أنه إذا اتبع واعتيد ربما أحدث
للنفس ضراوة وأنساً به, حتى يسري معها في أعمالها, ولاسيما وهو مخلوق معها
ملصق بها في الأمشاج, فقد يكون مسبوقاً بالامتثال الشرعي فيصير سابقاً له, وإذا
صار سابقاً له صار العمل الامتثالي تبعاً له وفي حكمه, فبسرعةٍ ما يصير صاحبه إلى
المخالفة, ودليل التجربة حاكمُ هنا.
3/أن اتباع الهوى في الأحكام الشرعية
مظنة لأن يحتال بها على أغراضه, فتصير كالآلة المعدّة
لاقتناص أغراضه كالمرائي يتخذ الأعمال الصالحة سلماً لما في أيدي الناس. وبيان هذا
ظاهر ومن تتبع مآلات الهوى في الشرعيات وجد من المفاسد كثيراً.
ولعل الفرق الضالة
المذكورة في الحديث أصل ابتداعها اتباع أهوائها, دون توخي مقاصد الشرع.
مقاصد
الشريعة وعلاقتها بدخول المكلف تحت أحكامها:
تظهر علاقة المقاصد
الشرعية بدخول المكلف تحت أحكامها من خلال تقسيم الشاطبي المقاصد الشرعية إلى
قسمين, هما: المقاصد الأصلية والمقاصد التابعة, وبيان ذلك كما يلي:
الأول : المقاصد الأصلية:
وهذه المقاصد
"لاحظَّ فيها للمكلف, وهي الضروريات المعتبرة في كل ملة" وهذا النوع
من المقاصد مصالحه عامة ومطلقة لا تتعلق بحال دون حال أو وقت دون وقت, ولهذا كانت
خالية من حظوظ العبد, وهذا النوع من المقاصد
على ضربين:
الأول : المقاصد الضرورية العينية : وهي ما كانت منوطة بتكاليف في نفس المكلف, مثل : حفظ
دينه عملاً واعتقاداً, وحفظ نفسه بقيامه بضرورات الحياة, وحفظ ماله وحفظ عقله
ونسله, وهذا النوع من المقاصد لا خيار للمكلف في الحفاظ عليها, وإلا تعرض للحجر
والعقاب, والحفاظ على هذه الضروريات ليس موكولاً إلى اختياره ورغبته؛ لأنه
"هنا صار فيها مسلوب الحظ محكوماً عليه في نفسه".
الثاني : المقاصد الضرورية الكفائية : وهذا النوع من المقاصد
من حيث "كانت منوطة بالغير أو يقوم بها على العموم في جميع المكلفين لتستقيم
الأحوال العامة التي لا تقوم الخاصة إلا بها" وهذه الضروريات تقوم بها
الجماعة لعدم قدرة الفرد الواحد على القيام بها, فيكون هذا النوع الكفائي مكمل
للعيني ولاحق به في كونه ضرورياً؛ إذ لا يقوم
العيني إلا بالكفائي, وهذا النوع من المصالح "ممنوعون من استجلاب الحظوظ
لأنفسهم بما قاموا به من ذلك, فلا يجوز لوالٍ أن يأخذ أجرة ممن تولاهم على
ولايته عليهم, ولا لقاض أن يأخذ من المقضي عليه أو له أجرة على قضائه.. لأن
استجلاب المصلحة هنا مؤد إلى مفسدة عامة تضاد حكمة الشريعة في نصب هذه الولايات.
القسم
الثاني : المقاصد التابعة
وهذا النوع من المقاصد
"هي التي روعي فيها حظ المكلف, فمن جهتها له مقتضى ما
جبل عليه من نيل الشهوات والاستمتاع بالمباحات وسد الخلات". وهذا النوع من
المقاصد حظ المكلف فيها ظاهر, وذلك لما يحققه من شهوات ولذات واستمتاع عند قيامه
بهذا المقصد الشرعي في حدود الإذن الشرعي, مثل : خلق شهوة الطعام والشراب عند
الجوع والعطش فيتحرك إلى سد هذه الخلة بما تيسر له, وهذا النوع من المقاصد التابعة
خادم للمقاصد الأصلية ومكمل لها, كما تعتبر المقاصد الأصلية أصولاً بخلاف المقاصد
التابعة, فهي فروعٌ لها, و "القسم الأول يقتضيه محض العبودية, والثاني يقتضيه
لطف المالك بالعبيد"؛ لأن الأول خال من الحظوظ بخلاف الثاني فلا يخلو منها. وما
يخلص إليه الشاطبي "أن ما ليس فيه للمكلف حظ بالقصد الأول يحصل له فيه حظ
بالقصد الثاني من الشارع, وما فيه للمكلف حظ بالقصد الأول يحصل فيه العمل المبرأ
من الحظ", وفي كل أحوال المكلف فإنه لا يعدم انتفاعاً وحظاً من المقاصد
الأصلية وإن كانت موضوعة في أصلها دون مراعاة حظ المكلف أو المقاصد التابعة التي حفظه
فيه بيِّن وظاهر, فحفاظ المكلف على دينه ونفسه وماله المعدود ضمن المقاصد الأصلية
يحقق له منافع ومتع, مثل: احترام الناس, ووضع القبول لهم في الأرض حتى يحبهم الناس
ويكرمونهم ويقدمونهم, ومن جهة قصد إلى المباحات لاكتساب الضروريات المعدودة من
المقاصد الأصلية, فمثل أكل الطيبات المستلذات, ولبس اللينات, وفي ذلك حفظ له فقد
"تضمن سد الخلات والقيام بضرورة الحياة, وقد مر أن إقامة الحياة من حيث هو
ضروري لاحظ فيه".
علاقة
المقاصد بأعمال المكلف :
إذا أوقع العبد عمله
على وفق المقاصد الشرعية فلا يخلو إما أن تكون على وفق المقاصد الأصلية أو على وفق
المقاصد التابعة, ولكن كمال العمل وأفضليته هو إيقاعه على مقتضى المقاصد الأصلية
((فإذا وقع على مقتضى المقاصد الأصلية بحيث راعاها في العمل فلا إشكال في صحته
وسلامته مطلقاً فيما كان بريئا من الحظ وفيما روعي فيه الحظ, لأنه مطابق لقصد الشارع
في أصل التشريع؛ إذ تقدم أن المقصود الشرعي في التشريع إخراج المكلف عن داعية هواه
حتى يكون عبداً لله.
ومراعاة
المقاصد الأصلية في الأعمال محققة لجملة من القواعد والفوائد: وهي:
1/المقاصد الأصلية
محققة لمقاصد الشارع في كونها تخرج المكلف من داعية هواه.
2/مراعاة المقاصد
الأصلية أقرب إلى إخلاص العمل وصيرورته عبادة, وأبعد عن مشاركة الحظوظ
التي تكدر صفو العبودية لله وإن كانت لا تنفيه.
3/البناء على المقاصد الأصلية يصير تصرفات المكلف
كلها عبادات, كانت من قبيل العبادات أو العادات, ويعلل الشاطبي هذا بأن
"المكلف إذا فهم مراد الشارع من قيام أحوال الدنيا, وأخذ في العمل على مقتضى
ما فهم فهو أبداً في إعانة الخلق على ما هم عليه من إقامة المصالح باليد واللسان
والقلب". فكل أعمال المكلف التعبدية تكون وفق ما أراده الشارع, وكل أعماله
العادية تكون منوطة بمراد الشارع أيضاً, فتتكون كل تصرفاته التعبدية
والعادية سواءً تعلقت بالقلب أو اللسان أو الجوارح, وسواءً كانت مع نفسه أو مع
غيره من المكلفين تكون أساسها إصابة مقصود الشارع فيها, فتكون كلها عبادات.
4/البناء على المقاصد
الأصلية ينقل الأعمال في الغالب إلى أحكام الوجوب؛ وسبب ذلك أن المقاصد
الأصليةدائرة على حكم الوجوب من حيث كانت حفظاً للأمور الضرورية, بخلاف المقاصد
التابعة فإنها دائرة على الأمور العامة, ولاشك أن العمل في دائرة الواجبات وهي
المقاصد الأصلية مفضل ومقدم على العمل في دائرة الأمور العامة أو الحظوظ الجزئية
وهي المقاصد التابعة, فكأن العمل بمقتضى المقاصد الأصلية عمل بالوجوب والعمل
بالمقاصد التابعة عمل بالمباح.
5/تحري المقاصد الأصلية
يضمن قصد المكلف كل ما قصده الشارع من حصول مصلحة أو درء مفسدة, وسواء كان امتثال
المكلف بعد فهم مقصد الشارع أو لمجرد امتثال الأمر بدون فهم مراد الشارع من أمر أو
نهي, ففي كل حال فهو قاصد ما قصده الشارع, وذلك محقق للأجر والثواب والجزاء
الجزيل من الله تعالى, بخلاف القصد التابع فلا يترتب عليه ذلك كله, ويكون أجره أقل
من الأول "لأن أخذ الأمر والنهي بالحظ أو أخذ العمل بالحظ قد قصره الحظ عن
إطلاقه وخص عمومه فلا ينهض نهوض الأول".
6/مراعاة المقاصد الأصلية في العمل يجعل الطاعة أعظم
في حين إذا خولفت كانت معصيتها أعظم, ففي جانب الطاعة
"متى كان قصد المكلف أعم كان أجره أعظم ومتى لم يعم قصده لم يكن أجره إلا على
وزن ذلك", وإنما كان أجره عظيم بسبب أن العامل على وفق المقاصد الأصلية يحقق
المصلحة العامة في جميع الخلق دون أن يقتصر على نفسه في امتثال الأمر بحث يجعل
قصده كل ما قصده الشارع بذلك الأمر فيبلغ ثوابه مبلغ قصده, ولا شك أن أجر المصالح
العامة التي يتعدى نفعها إلى جميع الخلق أعظم في الأجر من المصالح الجزئية التي قد
تتعلق بنفسه أو بغيره, فعظم الأجر يكون على مدى عموم قصده, ومن ناحية أخرى فإن
الذي يعمل على مخالفة المقاصد الأصلية عامل على الإفساد العام فيكون وزره كذلك
عظيم عظم ذلك الإفساد.
7/أصول الطاعات وجوامعها إذا تتبعت وجدت راجعة إلى
اعتبار المقاصد الأصلية, وكبائر الذنوب إذا اعتبرت وجدت في مخالفتها.
8/العمل إذا وقع على وفق المقاصد التابعة فهو صحيح
وهو عمل بالامتثال إن صاحبه القصد إلى المقاصد الأصلية, وإن كان أصل المقاصد
الأصلية التابعة سعي إلى حظوظ النفس, أما إذا وقع العمل على وفق المقاصد التابعة
دون ملاحظة المقاصد الأصلية وقصدها فالعمل باطل؛ لأنه عمل بالحظ الدنيوي المجرد.
المطالب
الشرعية في حق المكلف بناء على قصده ونيته نوعان :
الأول :
ما كان من قِبَل العبادات الجارية بين الخلق, مثل: العقود المختلفة
والمعاملات المالية, وهذا النوع من المطالب الشرعية تصح فيه النيابة, كالبيع والشراء
والإجارة ونحوها, إلا إذا كان الأمر مشروعاً لحكمة لا تتعدى المكلف عادة أو شرعاً؛
كالأكل والشرب واللبس والسكن, أو النكاح وأحكامه التابعة له من وجوه الاستمتاع,
ويضبط الشاطبي مسألة النيابة في العبادات بقوله: "أن حكمة العاديات إن اختصت
بالمكلف فلا نيابة وإلا صحت النيابة" وهذه قاعدة كفيلة لضبط النيابة في
العاديات.
الثاني : ما
كان من قبيل العبادات اللازمة للمكلف من جهة توجهه إلى الله تعالى, فهذا
النوع من التعبدات الشرعية لا يقوم فيها أحدٌ عن أحد, ولا يغني فيها عن المكلف
غيره, وعمل العامل لا يجتزئ به غيره, ولا ينتقل بالقصد إليه, ولا يثبت إن وهب ولا
عمل إن تحمل وذلك بحسب النظر الشرعي القطعي نقلاً وتعليلاً.
المقاصد
والوسائل
المقاصد : هي الأعمال والتصرفات المقصودة لذاتها, والتي تسعى النفوس إلى تحصيلها
بمساعٍ شتى أو تحمل على السعي إليها امتثالاً, وتلك تنقسم إلى قسمين: 1/ مقاصد للشرع 2/ مقاصد
للناس في تصرفاتهم.
أما مقاصد الشرع في أبواب المعاملات
فهي: الكيفيات المقصودة للشارع لتحقيق مقاصد الناس النافعة أو لحفظ مصالحهم
العامة في تصرفاتهم الخاصة, كي لا يعود سعيهم في مصالحهم الخاصة بإبطال ما أسس لهم
من تحصيل مصالحهم العامة, إبطالاً عن غفلة أو عن استزلال هوى وباطل شهوة. ويدخل في
ذلك كل حكمة روعيت في تشريع أحكام تصرفات الناس, مثل قصد التوثق في عقدة الرهن, وإقامة نظام
المنزل والعائلة في عقدة النكاح, ودفع الضرر المستدام في مشروعية الطلاق.
2/أما مقاصد الناس في تصرفاتهم فهي المعاني التي
لأجلها تعاقدوا أو تعاطوا أو تغارموا أو تقاضوا أو تصالحوا , وهي قسمان:
قسم هو أعلاها, وهو أنواع التصرفات
التي اتفق عليها العقلاء أو جمهورهم لمَّا وجدوها ملائمة لانتظام حياتهم
الاجتماعية, مثل :
البيع والإجارة والعارية, وما كان من أحكام تلك الأنواع مقصوداً بها لذاته لكونه
قوام ماهيتها, كالتوزيع في الإجارة والتأجيل في السلم, والمنع من التفويت في
التحبيس. ويُعلم هذا النوع باستقراء أحوال البشر.
وقسم هو دون ذلك , وهو الذي يقصده فريق من
الناس أو آحاد منهم في تصرفاتها لملائمة خاصة بأحوال مثل: العمرى
والعرية, ومثل الكراء المؤبد المعروف بالإنزال في تونس وبالحكر في مصر, وبالنصبة
في حوانيت التجارة في أسواق تونس ويعبر عنها بالجلسة في المغرب الأقصى, وهذا القسم
يتعرف بالأمارة والقرينة والحاجة الطارئة.
وهذه المقاصد بقسميها منها ما يدعى
بحق الله, ومنها ما هو حق للعبد.
1/فحق الله تعالى لا يراد به ما يعطيه
ظاهر هذه الإضافة من أنه حق لذات الله تعالى. بل المراد به حقوق للأمة فيها
تحصيل النفع العام أوالغالب أو حق من يعجز عن حماية حقه. أوصى الله تعالى
بحمايتها وحمل الناس عليها ولم يجعل لأحد من الناس إسقاطها. مثل: حق بيت المال,
والقاصر, وحضانة الصغير الذي لا حاضن له.
2/وحق العباد: التصرفات التي يجلبون بها لأنفسهم ما يلائمها
أو يدفعون بها عنهم ما ينافرهم دون أن يفضي ذلك إلى انخرام مصلحة عامة أو جلب
مفسدة عامة.
واعلم أنه قد يقترن الحقان حق الله وحق العباد في
مثل: القصاص والقذف, فيغلب حق الله غالباً. وقد يغلب حق العبد إذا لم يكن تدارك حق
الله مثل: عفو القتيل عن قاتله عمداً؛ لأن حق الحياة الذي حرم لأجله القتل وبولغ
في التهديد عليه قد فات فرجح حق العبد.
وأما الوسائل
: فهي الأحكام التي شرعت لأن بها تحصيل أحكام أخرى. فهي غير مقصودة لذاتها بل
لتحصيل غيرها على الوجه المطلوب الأكمل, إذ بدونها قد لا يحصل المقصد أو يحصل
معرضاً للاختلال والانحلال. فالإشهاد في عقد النكاح وشهرته غير مقصودين لذاتها
وإنما شرعاً؛ لأنهما وسيلة لإبعاد صورة النكاح عن شوائب السفاح والمخادنة. والحوز
للرهن ليس مقصوداً لذاته ولكنه شرع لتحقيق ماهية الرهن وحصول التوثق الأتم, حتى لا
يرهنه الراهن مرة أخرى عند دائن آخر فيفوت الرهن الأول.
وتنقسم الوسائل كانقسام المقاصد إلى
ما هي حقوق الله تعالى مثل : منع الرشوة عمن عمد يلي
أمراً من أمور المسلمين, فهي حق الله تعالى ليس مقصوداً لذاته, ولكنه شرع لقصد
تحقق إيصال الحقوق إلى أصحابها من أهل الخصومات, وتحقق أهلية من تسند إليهم
الولايات.وكون العقود لازمة بالعقد أو بالشروع في العمل وسيلة لعدم نقضها, وهي حق
لله تعالى ليحصل مقصد الشريعة من رفع الخصومات بين الأمة. ويدخل في الوسائل : صيغ العقود
وألفاظ الواقفين في كونها وسائل إلى تعرف مقاصدهم فيما عقدوه أو شرطوه . وقد اتضح
أن الوسائل مجعولة في الدرجة الثانية من المقاصد, فلذلك كان من قواعد الفقه أنه
إذا سقط اعتبار المقاصد سقط اعتبار الوسيلة, ومن الأمثلة الصالحة لهذا : تعارض لفظ
الواقف مع مقصده إذا قام على مقصده دليل غير لفظه وكان لفظه يخالف ذلك. ولذلك قال
الفقهاء: إذا استقامت المعاني فلا عبرة بالألفاظ. وقد
تتعدد الوسائل إلى المقصد الواحد فتعتبر الشريعة في التكليف بتحصيلها أقوى تلك الوسائل
تحصيلاً للمقصد المتوسل إليه بحيث يحصل كاملاً, راسخاً, عاجلاً, ميسوراً, فتقدمها
على وسيلة هي دونها في هذا التحصيل. فإذا قدرنا وسائل متساوية في الإفضاء إلى
المقصد باعتبار أحواله كلها سوت الشريعة في اعتبارها. وتخير المكلف في تحصيل بعضها
دون الآخر, إذ الوسائل ليست مقصودة لذاتها.
مقصد الشريعة
تعيين أنواع الحقوق لأنواع مستحقيها:
إن تعيين أصول
الاستحقاق أعظم أساس وأثبته للتشريع في معاملات الأمة بعضها مع بعض. فإنه يُحَصِّل
غرضين عظيمين هما أساس إيصال الحقوق إلى أربابها, لأن تعيينها يزينها في نفوس
الحكام ويقررها في نفوس المتحاكمين فلا يجدوا عند القضاء عليهم بحسبها حرجاً.
مقاصد
الشريعة في أحكام العائلة :
انتظام أمر العائلات في
الأمة أساس حضارتها, فلذلك كان الاعتناء بضبط نظام العائلة من مقصد الشرائع كلها.
ولم تزل الشرائع تُعنى بضبط أصل نظام تكوين العائلة الذي هو اقتران الذكر بالأنثى
المعبر عنه بالزواج أو النكاح, فإنه أصل تكوين النسل وتفريع القرابة بفروعها
وأصولها, فمن نظام النكاح تتكون الأمومة والأبوة والبنّوة, ومن هذا تتكون الأخوة
وما دونها من صور العصبة. ولا جرم أن الأصل
لأصيل في تشريع أمر العائلة هو : إحكام آصرة
النكاح ثم إحكام آصرة القرابة ثم إحكام آصرة الصهر ثم إحكام
كيفية انحلال ما يقبل الانحلال من هذه الأواصر الثلاث.
ولما أراد الله عز وجل بقاء أنواع المخلوقات جعل من
نظام كونها ناموساً وجعل في ذلك الناموس داعية جبلّية تدفع أفراد النوع إلى تحصيله بدافع من أنفسها غير محتاج
إلى حد أو إكراه عليه, ليكون تحصيل ذلك الناموس مضموناً وإن اختلفت
الأنواع والأحوال.وقد ميّز الله تعالى نوع الإنسان بالاهتداء إلى الفضائل
والمكرمات واستخلاصها من بين سائر ما يحف بها من شريف الخصال ورذيل الفعال وجعل له
العقل الذي يعتبر الأعمال باعتبار غاياتها ومقارناتها. فبينما كان قضاء الشهوة
اندفاعاً طبيعياً محضاً لم يلبث الإنسان منذ النشأة الموفقة أن اعتبر ببواعثه
وغاياته ومقارنتها, فرأى في مجموع ذلك حباً و وداً ولطفاً ورحمة وتعاوناً وتناسلاً
واتحاداً وإقامة لنظام العائلة, ثم لنظام القبيلة ثم الأمة.وفي خلال تلك المعاني
كلها معانٍ كثيرة من الخير والصلاح فألهم إلى أن تلك الداعية ليست هي بالنسبة إلى
نوعه كحالها بالنسبة إلى بقية أنواع الحيوان الذي لا يفقه منها غير اندفاع الشهوة
وعلم أن مراد خالقه من إيداعها في نوعه مراد أعلى وأسمى من المراد في إيداعها في
الأنواع الأخرى. وقد أشار إلى هذا الأمر قوله تعالى : ((هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها
فلما تغشاها حملت حملاً خفيفاً فمرت به فلما أثقلت دعوا الله ربهما لئن آتيتنا
صالحاً لنكون من الشاكرين)).فانظر قوله "منها"
, وقوله "ليسكن"
: من السكن والراحة والاطمئنان.
كما تكون تلك الداعية الشهوانية أمراً ذميماً إذا
حفت بها آثار قبيحة سيئة مثل: مفاسد الزنا, والبغاء, وغيرها. وتلك المذمات قد كانت مغضوضاً عن قبحها في
الجاهلية.
روى البخاري في صحيحه
من حديث عروة عن عائشة رضي الله عنها أنها أخبرته أن النكاح كان في الجاهلية على أربعة أسماء فنكاح منها هو
نكاح الناس اليوم يخطب الرجل إلى الرجل وليته أو ابنته فيصدقها ثم
ينكحها. ونكاح آخر
كان الرجل يقول لامرأته إذا طهرت من طمثها, أرسلي إلى فلان فاستبضعي مه ويعتزلها
زوجها ولا يمسها حتى يتبين حملها من ذلك الرجل التي تستبضع منه فإذا تبين حملها
أصابها زوجها إذا أحب وإنما يفعل ذلك رغبة في نجابة الولد, فكان هذا النكاح يسمى نكاح الاستبضاع. ونكاح آخر يجتمع الرجل ما دون العشرة
فيدخلون على المرأة كلهم يصيبها فإذا حملت ووضعت ومر عليها الليالي بعد أن تضع
حملها أرسلت إليهم فلم يستطع رجل منهم أن يمتنع حتى يجتمعوا عندها فتقول لهم, قد
عرفت الذي كان من أمركم وقد ولدت فهو ابنك يا فلان تسمى من أحبت باسمه فيلحق به
ولدها لا يستطيع أن يمتنع به الرجل.ونكاح رابع يجتمع الناس الكثير فيدخلون على المرأة
لا يمتنع ممن جاءها وهن البغايا وكن ينصبن على أبوابهن الرايات تكون علماً فمن
أرادهن دخل عليهن. فإذا حملت إحداهن ووضعت اجتمعوا لها ودعوا لهم القافة فألحقوا
ولدها بالذي يرون فالتاط ودُعي ابنه ولا يمتنع من ذلك.فلما بعث سيدنا محمد صلى
الله عليه وسلم بالحق هدم نكاح الجاهلية كله إلا نكاح الناس اليوم.
وقد اقتصرت أم المؤمنين
في حديثها على ما هو متعارف جهراً بين أهل الجاهلية ولم تذكر السفاح والمخادنة
المشار إليها بقوله تعالى: ((محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان)). لأن ما يقع سراً وهو
السفاح والمخادنة لم يكن مباحاً في الجاهلية إذ كان أولياء النساء
والبنات لا يقرون ذلك.
وزبدة القول: أن اعتناء الشريعة
بأمر النكاح من أسمى مقاصدها لأن النكاح هو أصل نظام العائلة وأن مقصدها منه قصر
الأمة على هذه الصنف من الزواج دون ما عداه مما حكي في حديث عائشة.
وحقيقته :هو اختصاص الرجل بامرأة أو نساء هن قرارات
نسله حتى يثق من جراء ذلك الاختصاص بثبوت انتساب نسله إليه.فإن هذا الاختصاص حفت
به أشياء منذ القدم كانت وازعة للمرأة عن الوقوع فيما يفضي إلى اختلاط النسب تلك
الوازعة هي: حصانة المرأة في نفسها بحسب تربيتها ونشأتها ودينها, وحصانة مقرها
بحسب صيانة زوجها إياها, ولذلك لم تر الشريعة نقض ما انعقد من عقود الجاهلية لأنه
كان جارياً على تلك الأحوال الكاملة.
نخلص من
ذلك إلى أن مقاصد الشريعة في أحكام النكاح الأساسية والتفريعية ترجع إلى أصلين:
الأصل الأول : اتضاح مخالفة صورة عقد
النكاح لبقية صور ما يتفق في اقتران الرجل بالمرأة.
الأصل الثاني : ألا يكون مدخولاً فيه
على التوقيت والتأجيل.
أما الأصل الأول فقد اتضح لك أمره مما
قدمناه وقد راعت الشريعة فيه تلك الصور مشروحة في حديث عائشة رضي الله عنها التي
قوامها التفرقة بين النكاح وبين غيره من المقارنة المذمومة المعرضة للشك في النسب,
وقوام ذلك يحصل في ثلاثة أمور :
الأمر الأول : أن يتولى عقد المرأة ولي لها, خاص إن كان أو عام ليظهر أن المرأة لم
تتولى الركون إلى الرجل وحدها دون علم ذويها, لأن ذلك أول الفروق بين النكاح وبين
الزنا والمخادنة والبغاء والاستبضاع, فإنه لا يرضى بها الأولياء في عرف الناس
الغالب عليهم. ولأن تولي الولي عقد مولاته يهيئه إلى أن يكون عوناً على حراسة حالها وحصانتها, وأن تكون عشيرته
وأنصاره في الذود عن ذلك, واشتراط الولي في عقد النكاح هو قول جمهور العلماء.
الأمر الثاني : أن يكون ذلك بمهرٍ يبذله الزوج للزوجة فإن المهر
شعار النكاح.
الأمر الثالث : الشهرة, لأن الإسرار بالنكاح
يقرّبه من الزنا, ولأن الإسرار به يحول بين الناس وبين احترامه, ويعرض النسل إلى
اشتباه أمره وينقص من معنى حصانة المرأة. والشهرة
في النكاح تحصِّل معنيين :
الأول : أنها تحث الزوج على مزيد الحصانة للمرأة إذ يعلم أنه قد علم
الناس اختصاصه بالمرأة فهو يتعير بكل ما تتطرق إليها الريبة. الثاني
: أنها تبعث الناس على احترامها
وانتفاء الطمع فيها إذ صارت محصنة, ومن أجل هذا الأصل الذي ذكرناه جعل
القرآن النكاح إحصاناً فسمى الأزواج محصنين بصيغة اسم الفاعل وسمى الزوجات محصنات
بصيغة اسم المفعول فقال تعالى: ((محصنين غير مسافحين
ولا متخذي أخدان)). وقال سبحانه: ((محصنات غير
مسافحات ولا متخذات أخدان)).
أما الأصل الثاني فإن الدخول
في عقد النكاح على التوقيت والتأجيل يقرّبه من عقود الإجارات ويخلع عنه ذلك المعنى
المقدّس الذي ينبعث في نفس الزوجين نية كليهما أن يكون قريناً للآخر, ما صلح الحال
بينهما, فإن المؤجل يهجس في النفس انتظار محل أجله, ويبعث فيها التدبير إلى تهيئة
ما يخلفه به عند انتهاءه.
مقاصد
الشريعة في التصرفات المالية:
ما يظن بشريعة جاءت
لحفظ نظام الأمة وتقوية شوكتها وعزتها إلا أن يكون لثروة الأمة في نظرها المكان
السامي من الاعتبار والاهتمام, وإذا استقرينا أدلة الشريعة من القرآن والسنة
الدالة على العناية بمال الأمة وثروتها والمشيرة إلى أن به قوام أعمالها وقضاء
نوائبها نجد من ذلك أدلة كثيرة تفيدنا كثرتها يقيناً بأن للمال في نظر الشريعة
حظاً لا يستهان به, وما عدُّ زكاة الأموال ثالثة قواعد الإسلام وجعلها شعار
المسلمين وجعل انتفائها شعار المشركين إلا تنبيه على أهمية المال للقيام بمصالح
الأمة اكتساباً وانفاقاً,
قال تعالى: ((يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة" وقال تعالى:
"وويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكاة"
وقال تعالى في معرض الامتنان, ((الله يبسط
الرزق لمن يشاء من عباده)) وقال في معرض المواساة بالمال ثناء وتحريضاً
"ومما رزقناهم ينفقون" وقال :
" وأنفقوا مما رزقناكم" وقال:
"زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين
والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث"
وقال: "وجعلت له مالاً ممدوداً"
وقال: "وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم"
وقال: "وعدكم الله مغانم كثيرة تأخذونها"
وقال: ((وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله
)) أي يسافرون في التجارة كما قال علماء التفسير. وقال: ((ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم)) أي تتجروا
في أشهر الحج وقال: ((الذين أخرجوا من ديارهم
وأموالهم يبتغون فضلاً من الله ورضواناً)) وقال: ((وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله) وقال: ((وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيدكم إلى التهلكة)).
وفي صحيح مسلم أن
أناساً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا يا رسول الله: ذهب أهل الدثور
بالأجور يصلون كما نصلي ويصومون كما نصوم ويتصدقون بفضول أموالهم. قال صلى الله
عليه وسلم : "أوليس قد جعل الله لكم ما تصدقون به: إن لكم بكل تسبيحة صدقة
إلى أن قال: فرجع الفقراء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: سمع إخواننا
أهل الأموال بما فعلنا ففعلوا مثل ما فعلنا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"ذلك فضله الله يؤتيه من يشاء".
وفي الحديث: "إن
لله ملكاً يدعو اللهم أعطي منفقاً خلفاً وممسكاً تلفاً", فحرض على الإنفاق
بوعد الخلف للمال, وحذر من الإمساك بوعيد التلف وقال رسول الله لكعب بن مالك
"أمسك بعض مالك فهو خيرٌ لك" وقال لسعد بن أبي وقاص: "إنك إن تدع
ورثتك أغنياء خيرٌ من أن تدعهم عالة يتكففون الناس".
وإنما أفضنا في ذكر الأدلة على ما للمال من الأهمية
لإزالة ما خالط نفوس كثير من الناس من توهم أن المال ليس منظوراً إليه بعين
الاهتمام في الشريعة. وإنما لم تأمر الشريعة صراحة بجمع المال وكنزه لاستغنائه بما
جُبلت عليه النفوس من حبه ولكي لا ينظم مع داعية الحرص على المال داعية أخرى, قد
أشار إلى ذلك قوله تعالى: ((وتحبون المال حباً
جماً)) وقوله عز وجل: ((زين للناس حبُّ
الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة)) فحتى لا
يحصل من اجتماع الداعيتين تكالب الأمة على اكتساب المال والافتتان به معرضين عما
عدا ذلك من أسباب الكمال, بل لقوة داعية الحرص على المال في النفوس حذر القرآن من
الافتتان به وجعله الهم الأكبر.قال تعالى: ((إنما
أموالكم وأولادكم فتنة)) وقال: ((وما أموالكم
ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفاً)) وفي الحديث الصحيح :
"أخاف عليكم أن تنافسوا فيها كما تنافس الذين من قبلكم فتهلككم كما
أهلكتهم".فشبه التنافس المحذور بتنافس الذين من قبلنا وهو التنافس الذي تتمحض
له الأمة – أي تخلص – فتنصرف عن التنافس في الفضائل والأخلاق الحميدة وربما تركت
كثيراً من صفات الكمال وراء جلب المال. لذلك فإن الشريعة في هذا الشأن لم تنه
الناس عن اكتساب المال من وجوهه المعروفة وبينت لهم ما في وجوه صرفه من المصالح
والمفاسد رغبة ورهبة, وقد تقرر عند العلماء أن حفظ الأموال من قواعد كليات الشريعة
الراجعة إلى قسم الضروري.
والمقصد
الشرعي في الأموال كلها خمسة أمور:
1/رواجها. 2/وضوحها .
3/حفظها. 4/ثباتها 5/العدل فيها. وإليك التفصيل:
فالرواج : دوران المال بين أيدي أكثر من يمكن من الناس بوجه حق. وهو مقصد شرعيٌ عظيم دل
عليه الترغيب في المعاملة بالمال, ومشروعية التوثق في انتقال الأموال من يد إلى
أخرى. ففي الترغيب في المعاملة بالمال جاء قوله تعالى: ((وآخرون
يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله)) أي يسافرون في التجارة وقول النبي
صلى الله عليه وسلم ((ما من مسلم يزرع زرعاً أو يغرس غرساً فيأكل منه طيرٌ أو
إنسان أو بهيمة إلا كان به صدقة)). وفي الموطأ عن عمر رضي الله عنه أنه قال:
((اتجروا في أموال اليتامى لا تأكلها الزكاة)).ولأجل مقصد الرواج كان الأصل في
العقود المالية اللزوم دون التخيير إلا بشرط قال تعالى: ((أوفوا بالعقود)) ومن معاني الرواج المقصود انتقال المال بأيدي
عديدة في الأمة على وجه لا حرج فيه على مكتسبه وذلك بالتجارة وفي قسمة الفيء جاء
قوله تعالى: ((كي لا يكون دُولة بين الأغنياء منكم))
فالدولة بضم الدال تداول المال وتعاقبه, أي حتى لا يكون مال الفيء يتسلمه غني عن
غنى.
ومن وسائل
رواج الأموال, القصد إلى استنفاد بعضها وذلك بالنفقات
الواجبة على الزوجات والقرابة فلم يترك ذلك لإرادة القيِّم على العائلة بل أوجب
الشرع عليه الإنفاق بالوجه المعروف. وهو مما شمله قوله تعالى: ((ومما رزقناهم ينفقون)). وقوله: ((ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط))
وفي الآية الأخرى: ((والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم
يقتروا وكان بين ذلك قواماً)). ومن وسائل رواج الأموال تسهيل المعاملات بقدر
الإمكان وترجيح جانب ما فيها من المصلحة على ما عسى أن يعترضها من خفيف المفسدة,
ولذلك لم يشترط في التبايع حضور كلا العوضين, فأغتفر ما في ذلك من احتمال الإفلاس.
المقصود من
وضوح الأموال:
وأما وضوح الأموال فذلك
لإبعادها عن الضرر والتعرض للخصومات بقدر الإمكان, ولذلك شُرع الإشهاد والرهن في
التداين وفي مشروعية التوثيق جاء قوله تعالى: ((وأشهدوا
إذا تبايعتم)) وقوله تعالى: ((يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى
فَاكْتُبُوهُ)) وقوله: ((وَإِنْ كُنتُمْ عَلَى
سَفَرٍ وَلَمْ تجِدُوا كَاتِباً فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ
بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ)).
المقصود من
حفظ الأموال:
أما المقصود من حفظ
الأموال فأصله قول الله تعالى: ((يا أيها الذين آمنوا
لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراضٍ منكم)) وقول
الرسول في خطبة حجة الوداع : ((إن دماءكم وأموالكم عليكم حرامٌ كحرمة يومكم هذا في
شهركم هذا في بلدكم هذا)). وقوله : ((لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفسه))
وقوله: ((من قتل دون ماله فهو شهيد)) وهو تنويه – إشادة – بشأن حفظ المال وعظم جرم
المعتدي عليه.
المقصود من
ثبات الأموال:
المراد به تقررها
لأصحابها بوجهٍ لا خطر فيه ولا منازعة, فمقصد الشريعة في إثبات التملك والاكتساب
أمور:
1/أن يختص المالك الواحد
أو المتعدد بما تملَّكه بوجهٍ صحيح, بحيث لا يكون في اختصاصه به وأحقيته ترددٌ ولا
خطر, ولذلك قال تعالى: ((وأشهدوا إذا تبايعتم)).
2/أن يكون صاحب المال حرُ
التصرف فيما تملّكه أو اكتسبه تصرفاً لا يضر بغيره, ولذلك حُجِرَ على السفيه
التصرف في أمواله. 3/أن لا
يُنتَزَع منه بدون رضاه.
والمقصود من العدل في الأموال:
وذلك بأن يكون حصولها
بوجه غير ظالم. وذلك إما أن تحصل بعمل مكتسبها وإما مع عوضٍ مع مالكها أو تبرع أو
إرث.
مقاصد أحكام
التبرعات: هي:
المقصد الأول: التكثير منها لما فيها من المصالح العامة
والخاصة ولمّا كان شُّح النفوس حائلاً دون تحصيل كثير منها دلَّت أدلة الشريعة على
الترغيب فيها فجعلته من العمل غير المنقطع ثوابه بعد الموت ففي الحديث: ((إذا مات
ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث وذكر منها: (أو صدقة جارية).
المقصد الثاني :أن تكون التبرعات
صادرة عن طيب نفس لا يخالجه تردد لأنها من فعل المعروف
والسخاء ولأن فيها إخراج جزء من المال المحبوب بدون عوض يخلفه, فتمحض (أي خلص) أن
يكون قصد المتبرع النفع العام والثواب الجزيل.ولذلك كان من قصد الشارع فيها أن
تصدر عن أصحابها صدوراً من شأنه أن لا تعقبه ندامة, وفي الحديث: ((أن تصدق وأنت
صحيح شحيح تأمل الغنى وتخشى الفقر, ولا تترك حتى إذا بلغت الحلقوم قلت لفلان كذا
ولفلان كذا)).وهذه الحالة تقتضي – أي حالة الإنفاق – العزم دون التردد إلى وقت
الضيق.
المقصد الثالث : التوسع في وسائل
انعقادها حسب رغبة المتبرعين : ووجه هذا المقصد أن التبرع بالمال عزيزٌ على
النفس, فالباعث عليه حث الشريعة ودافعٌ خلقي عظيم, وهو مع ذلك لا يسلم من أن
يجاذبه شح النفوس قال تعالى: ((الشيطان يعدكم الفقر
ويأمركم بالفحشاء)) ولأجل هذا المعنى أباحت الشريعة تعليق العطية على حصول
موت المعطي بالوصية, مع أن ذلك منافي لأصل التصرف في المال؛ لأن المرء إنما يتصرف
في ماله مدة حياته.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق